يا نساء العالم اتحدن!

إن نقطة الانطلاق في طريق التغيير تقضي بتعديل النظرة إلى تحليل قضايانا, خصوصا التي أصبحت تحدث شرخا في المناخ العام, وأحيانا عدم الوضوح, خصوصا لمن لا يدركون الإطار الشرعي لمسيرة الإنسان في المجتمع بشكل عام, وبالطبع تكون المرأة (القضية) ضمن هذا السياق التشريعي الذي يحقق التوازن الاجتماعي والأمن النفسي العام.
ولأن الخوض في هذه القضية أصبح من الخطورة بمكان، لتعدد مشارب من يناقشها من الكتاب البعيدين عن السياق التشريعي في هذه المناقشات والكتابات, خصوصا أنهم ليسوا من ذوي الاختصاص في هذه القضية، ولأنهم يستنبتون بذورا غربية المنشأ فكرا ومنهاجا في تربة مجتمعاتنا المسلمة التي لا تتكيف مع نموها أو استثمار نتائجها, كما يراها المجتمع الغربي الذي يختلف عن مجتمعاتنا تشريعا وأسلوب حياة, فقوانينه وضعية, وسقف هذه القوانين هو الفلسفة الوضعية التي تقصي الدين عن الحياة ولا تؤمن إلا بالواقع التجريبي, كما يقال, فالغيبيات وعالم الغيب الذي نؤمن به بصفتنا مسلمين, غائب عن مقتضيات هذه القوانين, وبالتالي يكون التخبط والخلل في تطبيقها, ما أحدث تعدد وتنوع الحركات التحريرية لقضايا المرأة هناك وانتقل هذا التخبط إلى مجتمعاتنا المسلمة ولكن من خلال وثائق الأمم المتحدة وتحت أسماء متعددة (تحرير المرأة من جور الإسلام), و(تمكين المرأة), و (حقوق المرأة) .. إلخ.
إن مشكلة المرأة أو قضية المرأة أو حرية المرأة كما يحلو لبعض الناس تسميتها، وإن كانت في الواقع شيء واحد، التي أثيرت في الفكر الإسلامي المعاصر، لم تكن معروفة في مجتمعنا الإسلامي مند بداية الرسالة المحمدية ومنذ أن أعلن رسول رب العالمين ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدء تحريرها الحقيقي من ذل الجاهلية وقيود أعرافها, ولكن ما طرأ على هذه المكانة التي وفرها لها الإسلام اعتراها التغير وفق تغيرات مرت بهذه المجتمعات الإسلامية من صراع على السلطة وسقوط دولة إسلامية ونشوء أخرى ثم الاحتلال الأجنبي والصراع معه الذي استغرق مئات السنين وترك آثاره واضحة في بنية هذه المجتمعات, عندها ارتقت الأعراف على التشريعات في توصيف مكانتها, وحدث الخلل في إيفائها حقوقها الشرعية, وبالتالي التقصير في أدائها واجباتها الشرعية أيضا سواء على مستوى المناخ الأسري أو المجتمعي, وامتد هذا الخلل إلى وقتنا الحاضر.
كما ذكر عبد الله بوفولة: (إن عدم استعراض مؤسس علم الاجتماع ابن خلدون ـ رحمه الله، وهو المعروف بدقته وحرصه في تصنيفه نوع المشكلات الاجتماعية وطرحها بأسلوب علمي فلم نجد أثرا في كتابه القيم (المقدمة) لموضوع المرأة ولم يعقد فيه فصلا عنوانه المرأة أو أي شيء من هذا القبيل، وهذا دليل قاطع يبين لنا أنه من عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى عصر ابن خلدون- خلال هذه الفترة الزمنية ومدتها عشرة قرون تقريبا - لم توجد ولم تعرف هذه المشكلة إطلاقا في الفكر الإسلامي ولا في المجتمع الإسلامي، الإسلام قدم الحلول لكل أنواع المشكلات المحتملة.
ولأن المفكر الجزائري المسلم مالك بن نبي كان منظرا لمشكلات مجتمعنا الإسلامي فإن المرأة في قضاياها المعاصرة وجدت في صفحاته مكانا تحدث فيه عن تاريخ تغير مكانتها وكيف تم استدراجها إلى النموذج الغربي خلال الاحتلال الأجنبي, فكما وضح أنه بعد ابن خلدون حدث تطور غريب يعود إلى اتصالنا بالحضارة الغربية واحتكاكنا بثقافتها وتقربنا منها, وبالتدقيق منذ منتصف القرن الماضي, ومنها التطور الخطير في الفكر الغربي نفسه، وهو ما يسمى (الفكرة الطبقية) التي يدين بها الغرب إلى كارل ماركس في مؤتمر دولي سنة 1881م تحت الشعار "يا كادحي العالم اتحدوا" وكصدى لهذه الفكرة الانفصالية التخريبية، أتت فكرة أخرى: "يا نساء العالم اتحدن" ويتساءل مالك: اتحدن ضد من؟ ثم يوضح أن الطبقية صفة من صفات الجاهلية مارستها الشعوب قديما وهي معروفة عند الإغريق وعند العرب بما يسمى طبقة السادة وطبقة العبيد ولم يبق لها أثر يذكر, وذلك عندما طلب سادة قريش وزعماؤهم من الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن ينحي عن مجلسه الضعفاء والعبيد ويطردهم حتى يمكن أن يحضره الأشراف والعظماء لسماع القرآن عسى أن يهتدوا بهديه فيقول: "ما أنا بطارد المؤمنين" . فالإسلام لم يميز المرأة عن الرجل أو الرجل عن المرأة إلا في بعض الوظائف، فكلاهما سواسية في المنظور الإسلامي، وقد ربطهما بقانون سماوي لكيلا يكون الإجحاف من طرف على الآخر، وقد أعطى المرأة بعض الميزات المعنوية - وهي كثيرة التي لم يعطها للرجل، حيث قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ "الجنة تحت أقدام الأمهات", وهذا التكريم العظيم هو عبارة عن وسام استحقاق من أرفع درجة التي تعطى أو تمنح لأحسن مخلوق قدم خدمة جليلة يستحق عليها المكانة والتقدير والتبجيل والاحترام والاعتراف، إذاً فكل امرأة وصلت إلى مرتبة الأم فهي معنية بهذا التكريم لا محالة، دون أن ننسى ما للأم من أهمية في تربية هذا الإنسان بشطريه الرجل والمرأة ورعايتها لهما بالحب والحنان.
إذن فهجوم الغرب علينا واتهامنا بأننا نهضم حقوق المرأة، كلام يخرج عن المنطق السليم، فتسربت هذه الأفكار في شكل مشكلة نظرية، سموها مشكلة المرأة، تسربت من جهتين: من جهة كفكرة طبقية، ومن جهة كرد فعل إسلامي للدفاع عن الإسلام، فأردنا أن نبين الحقيقة بانحرافنا وخروجنا عن نطاق الأحكام الإسلامية، كأننا أردنا أن نبين للغرب أننا أمة متحضرة في مستوى الآخرين نلبس (الماكسي والميني) كما يلبسون، لأننا أحرار فعلا). ويرى مالك أن القضية في هذه الصورة النظرية من ناحية مشكلة فكرية، ومن ناحية أخرى مشكلة اجتماعية، كتقليد وكمحاكاة لمجتمع متفوق علينا حضاريا نعترف له بهذا كما قال ابن خلدون: "من طبيعة المغلوب أنه مولع باتباع الغالب", وهذا التأثير له إيجابياته وسلبياته - ولكن هذا لا ينسينا كمؤمنين، يجب أن نراجع الفكرة لا في ضوء الحضارة الغربية، ولكن في ضوء القوانين والسنن الإلهية التي تتصرف في مصير المجتمعات الإنسانية حتى المجتمع الغربي نفسه لا المجتمع الإسلامي فقط. إذا قررنا وسلمنا بهذه المقولة أن هناك مشكلة تسمى المرأة، يجب أيضا أن نقرر- من باب المنطق - أن هناك مشكلة أمامها تسمى مشكلة الرجل، وحينئذ نقول أيها الرجال اتحدوا، كما قلنا أيتها النساء اتحدن، ضد من؟ لسنا ندري. ثم يقول: القضية إذا من منطلقنا خطأ فظيع نظريا واجتماعيا (أعني فلسفيا واجتماعيا) في العالم بصفة عامة، وتقليدا في العالم الإسلامي بصفة خاصة، لا وجود لمشكلة اسمها مشكلة المرأة كما لا وجود لمشكلة اسمها مشكلة الرجل.
الواقع أن هناك مشكلة اسمها الإنسان بوجهيه الرجل والمرأة، إذا كان الرجل والمرأة يكونان فردين من الناحية العددية، فهما يكونان فردا واحدا من الناحية الاجتماعية لقوله تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة" أي رجل + امرأة = نفس واحدة (وهي الإنسان).
لهذا لا تطرح قضية المرأة من ناحية وقضية الرجل من ناحية أخرى، وإنما هو الإنسان من جميع الأوجه: وجه يسمى الرجل، ووجه يسمى المرأة، والآخر: الأم، والأب، والأخ، والأخت، والابن والبنت، والتي هي قضية واحدة، ولن تحل إذا فصلناها، بل تعقد. فوحدة الإنسانية التي يتكون منها المجتمع، لا يمكن أن تبنى من: رجل + رجل + رجل إلى ما لا نهاية، ولا من امرأة + امرأة + امرأة إلى ما لا نهاية إنما الازدواجية لما تذوب وتنصهر في وحدة تسمى الإنسان، أو الوحدة البشرية، والوحدة البشرية ليست واحدة كما هو في الأعداد الحسابية، الوحدة البشرية اثنان رجل + امرأة = إنسان (وحدة بشرية) حتى من الناحية العلمية (الكيمياء والفيزياء) الوحدة أحيانا تعني شيئين، مثلا الماء الواحد ويعني شيئين، إذا حللناه أو مزقناه، وقلنا له: يا هيدروجين اخرج من ناحية، ويا أكسجين من ناحية، انتهى الماء وبالتالي نموت عطشا وتنعدم الحياة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي