الكتاب الجيد يُقرأ عدة مرات

كنت في الطائرة إلى كندا حين وقع تحت يدي كتاب صغير حرفه سيئ وتجليده نحيف قده، بعنوان تقليدي غير مثير، ولكنه كان درة من درر محيط المعرفة! كان كتاب "العبودية المختارة"، أما المؤلف فغامض غير معروف. قلبت الكتاب قلت: ربما يشبه كتاب العبودية لابن تيمية، ولكنه كان كتابا ضئيل الحجم جليل الفائدة، وهكذا شأن ذخائر الفكر.
قلبت الكتاب بسرعة لمعرفة تاريخ التأليف ومن هو هذا الكاتب الفرنسي ذو الاسم الغريب: جان لابواسييه، فدهشت حين علمت أنه ألف كتابه عام 1562م، وكان شابا صغيرا، وكذلك ملامح العبقريات حين تتدفق.
الخلاصة: قلبت الكتاب في الطائرة، والطريق إلى كندا الباردة بعيد موحش يحتاج يوما كاملا حتى يصل المرء، فهذا هو القدر الذي رسمته لنفسي وأحفادي من بعدي أن يصبحوا كنديين، بعد أن ودعنا بلادا عزيزة علينا بعد أن ضاع الأمن وغابت الطمأنينة.
حين قلبت النظر في الكتاب قلت: لا يجب أن يقرأ بهدوء، وهكذا عطفت على الكتاب طيلة الرحلة ثم أياما في كندا في مونتريال حيث بناتي.
كان كتابا رائعا يدخل فيه الإنسان بنفس ويخرج بغير الروح التي دخل بها، فقد غير عقله الكتاب. أذكر نفس الشعور حين قرأت كتاب "آفاق المستقبل" لجاك أتالييه، وكتاب "مسألة الآخر" و"اكتشاف أمريكا"، أو قصة "آخر الرحلين"، أو كتاب "علم النفس" لعبد الستار إبراهيم، أو كتاب "اليابان تقول لا".
وهكذا ليس كل كتاب جيدا، وهناك من الكتب ما تقرأ مرة واحدة، وأحيانا يندم المرء على تضييع الوقت فيخلصه دون إنهاء، وهناك من الكتب ما يخضع لقانون تكرار وإعادة قراءة الكتاب الجيد عشرات المرات، وهو ما حصل معي في قراءة كتاب "تجديد التفكير الديني" لمحمد إقبال؛ فقد قرأته اثنتي عشرة مرة، أو كتاب "العلم في منظوره الجديد" أكثر من عشر مرات، أو مختصر دراسة التاريخ لتوينبي عدة مرات، أو "عندما تغير العالم" أربع مرات، وهو شعوري مع عديد من ذخائر الفكر الإنساني، وأنصح بهذه القاعدة قرائي.
لقد وطنت نفسي مع هذه المقالة أن أضع قوانين البناء المعرفي مثل رقعة الشطرنج بثمان وأربعين خانة، بحيث أتناول مع كل خانة فكرة مهمة عن البناء المعرفي؛ فالكتاب الجيد يقرأ عشرات المرات، حتى يهضم ويصبح في تركيبة المنظومة المعرفية.
وكتاب "العبودية المختارة" ليس الكتاب الوحيد، ذلك الذي يجب أن يقرأ عشرات المرات مثل عملية هضم الطعام، حتى يتم تمثله على الطريقة التالية، بحيث يصبح في النهاية من ضمن تركيب المنظومة المعرفية عند القارئ.
ولشرح ذلك أقول نحن نأكل الطعام من أصناف شتى ولكن لا يخطر في بالنا ماذا يحدث للطعام سوى أننا نستمتع به!
إلا أنني باعتباري طبيبا درست في علم الفسيولوجيا مصير الطعام الذي نتناوله، وعرفت أن لقمة الخبز –مثلا- تتكسر بعد التقطيع بالأسنان والذوبان بحمض المعدة إلى الوحدات الأولية، وهي السكاكر السداسية التي تسهم في مدنا بالطاقة.
كذلك الحال مع البروتينات فقطعة اللحم تتحول في النهاية إلى وحداتها الأولية من الأحماض الأمينية.
تماما مثل حروف علامات السيارات، فيمكن من الحروف الأولى كتابة كلمات ذات معنى!
المثل على ذلك لو وقفت أمامنا سيارة وعليها نمرة بثلاث حروف (ع ـ ر ـ ب 881) لندع الرقم ونذهب للحروف فيمكن استخراج ستة معان إذا لم يكن أكثر.. تأمل معي عمليات تحول الكلمة: عرب ـ عبر (وهي بثلاثة معان على الأقل حسب حركة الحرف والشدة فيخرج منها التعبير والتجاوز وبكسر العين عبر الأيام والتاريخ!) ـ ثم رعب ـ ربع ـ برع ـ بعر.
الشيء نفسه يحدث للأحماض الأمينية التي تتكسر إلى الأحرف الأولى ثم يبني الجسم منها تراكيب خاصة به من الهورمونات والمواد البروتينية في بناء العضلات والجسم.
وهذا نفسه يحدث في تناول وجبة فكرية دسمة وعمل العقل عليها كي تصبح من تركيب الدماغ في النهاية، في منظومة الفكر، فتتخمر مع غيرها وتتفاعل مع ما سواها لتصبح شبكة معقدة من حكم الزمان وضفيرة رائعة من العبقرية المتدفقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي