توحش الثقافة .. وهم الخصوصية والمغايرة
الإنسان في العادة وفي خلال مسيرته في الحياة يخوض مواجهات عديدة ومتنوعة، ولكن أعنفها وأشرسها هي مواجهته لنفسه, ومن هنا كانت المواجهة مع النفس هي الجهاد الأكبر، وكانت عملية التغيير لهذا المكون الداخلي والعالم الجواني عند الإنسان هو الممهد وهو المفتاح لتغيير الخارج والعالم البراني. فكلما أراد الإنسان أن يخطو خطوة إلى الأمام في حياته فلا بد له من أن يمتد في داخل نفسه ما يقابلها, وقمة النجاح هي أن يستوعب الإنسان كامل نفسه، وأما الوقوع في دائرة الفشل فتعني انكماش الإنسان في تأثيره الداخلي على نفسه يقابله تضخم في هذه الأنا النفسية التي تمنع الإنسان من أن يرى عيوبه أو يكتشف أخطاءه أو يقترب من واقعه. فالنفس هي بوابة النجاح وهي حفرة الفشل.
والمجتمع هو الآخر يعيش مواجهات عدة ومتنوعة ولكن مواجهته مع نفسه هي الأخرى الأشد وقعا عليه والأكثر تأثيرا في تحديد مصيره, فقد يفشل في إدارة مواجهته لنفسه فينقسم هذا المجتمع إلى مكونات تعطل مشتركاتها وتبالغ في تضخيم ما يفرق ويباعد بينها. وقد تنزلق به المواجهة الخاطئة إلى الاصطدام مع واقعه ويتحول المجتمع بفعل ذلك إلى أداة معطلة, فالإصلاح هو خروج عن الثوابت والتجديد هو إرباك للواقع ومغامرة بالمكتسبات والمطالبة بالتغيير هي دعوة مبطنة للتخلي عن العادات والتقاليد المتوارثة والنظر إلى المستجدات والاجتهاد للاستفادة منها والانسجام مع متطلباتها هي أقوال يُراد بها القطيعة مع التراث وقطع الصلة مع الأسلاف. وقد تفتعل مواجهات لإلهاء المجتمع عن ممارسة دوره لبناء نفسه وتعظيم قدراته واستثمار فرص التطوير المتاحة له, فمرة يستثار دينيا أو مذهبيا وينتج عن ذلك احتقانات واستقطابات تزيد من عجز هذه المجتمعات عن النهوض بنفسها, ومرة يشحن نفسيا بدعاوى وأوهام التآمر الخارجي وعندها تتعطل كل استحقاقات اللحظة الراهنة وتؤجل كل الخطط المستقبلية بحجة التفرغ لهذا العدو الوهمي, ومرة يشغل علماءه ومفكريه بمعارك نظرية أو تاريخية لينسوا دورهم الحقيقي في دراسة الواقع وتشخيص المشاكل وإيجاد الحلول وتقييم الخيارات المتاحة والاجتهاد في قراءة المستقبل, وبين فترة وأخرى قد يستدرج المجتمع إلى مواجهة عنيفة مع نفسه فتدور دائرة الحرب الأهلية لتتكفل بتهديم ما تم بناؤه وبعثرة ما تم جمعه من موارد وجهود كانت يراد بها تعميق التواصل والتكامل بين مكوناته وفئاته المتنوعة. فالمجتمعات يقرر مصيرها بحُسن إدارتها للصراع والمواجهة مع نفسها, فهناك مواجهات وهمية تستهلك الموارد وتبعثر الطاقات وتشتت الجهود من دون عائد إيجابي يتلمسه المجتمع, وهناك مواجهات يُراد بها إذكاء الفتنة الاجتماعية لينشغل المجتمع بنفسه عن نفسه, وهناك مواجهات لا يراد للمجتمع أن يخوضها، إما استهانة به من قبل القوى المتنفذة في المجتمع وإما خوفا من أن تستثير هذه المواجهات مكامن قوة ذلك المجتمع فيصير أكثر قدرة على التعرف على مصالحه وتشخيص مشاكله وإنتاج قياداته.
ومرة أخرى تلعب الثقافة الاجتماعية الدور الأكبر في كيفية إدارة المجتمع في المواجهة مع نفسه, فقد تخذله هذه الثقافة وعندها لا يفرق المجتمع بين المواجهة الحقيقية والمواجهة الوهمية, وقد تكون هذه الثقافة أضعف من أن تقف سدا مانعا من اختراق المجتمع واستدراجه إلى مواجهات تؤجج الفتنة والاصطدام في داخله, وقد يصل الأمر بهذه الثقافة إلى أن تزين للمجتمع ممارسة العنف لحل خلافاته واللجوء إلى خيار التهميش والمحاصرة وحتى القمع في التعامل مع الآراء المختلفة والاجتهادات المتنوعة. فإذا كانت مواجهة المجتمع لنفسه أمرا لا بد منه فإن المسؤولية تقع على الثقافة الاجتماعية في إدارة هذه المواجهة، وبالتالي فمن يخسر وينهزم هو ذلك المجتمع المهزوم أصلا في ثقافته.
صحيح أن هناك الكثير مما يحتاج إليه المجتمع لتعزيز قدراته في المواجهة مع نفسه, فالعلم مطلوب والأخذ بالتقنيات الحديثة أمر لا بد منه وتوفير الموارد واتباع الإدارة بمنهجية علمية كلها مستلزمات ضرورية لإنجاح عملية مواجهة المجتمع مع نفسه، ولكن كل هذه الأشياء تبقى أسيرة في يد الثقافة تنتظر منها أن توظفها لصالح تلك المواجهة. وهذا الدور للثقافة الاجتماعية يؤكد على أن المراجعة المستمرة للثقافة هي من صميم العملية التنموية للمجتمع, فهناك الكثير من القناعات والتصورات الخاطئة التي يستقوي وجودها مع مرور الزمن وعندها تكون هناك حاجة إلى جراحة ثقافية ليتم التخلص منها, ومن هذه القناعات التي قد تبتلى بها الثقافة الشعور بالخصوصية المبالغ فيها والإحساس بغيرية واهمة تعطل عنده الرغبة في تطوير الواقع إلى ما هو أفضل.
وهم الخصوصية هو مكون ثقافي معطل لحركة المجتمع لأنها قد تدفع بالمجتمع إلى الوقوف سلبا في التعامل مع التحديات الداخلية والمؤثرات الخارجية, والسلب لا فعل والسلبية لا فعالية والمجتمع الذي يفتقد الفعل يخسر المواجهة مع نفسه في أول جولة له. أما كيف يعزز الشعور بالخصوصية من ضعف المجتمع وسلبيته في المواجهة مع نفسه فيمكن مناقشتها وبإيجاز في النقاط التالية:
1 - الاقتناع المبالغ فيه بالخصوصية تجعل عند المجتمع حساسية مفرطة للقبول بالدعوات الإصلاحية، لأن مثل هذه القناعات التي تتمحور بشدة حول الذات لا ترى في الإصلاح بأنه جزء من حركة المجتمع لتطوير ذاته، بل تنظر إليه على أنه تهديد يُراد به تقويض هذه الذات ومحاولة لانتزاع ما يحويه هذا المجتمع من مكونات ينفرد بها.
2 - الإحساس بالخصوصية تدفع المجتمع إلى الاستعلاء على واقعه ومحيطه، ومثل هذا الحال يفقد المجتمع القدرة على التواصل مع الواقع فيكون الانشغال إما بمشاكل لا وجود لها أو الانغماس في قضايا لا أولوية لها.
3 - الخصوصية ككل مكون ثقافي قد يتضخم ويتحول إلى أورام ثقافية تنخر في جسد المجتمع, فالخصوصية الواحدة تتحول إلى خصوصيات، والخصوصية العامة تتحول إلى خصوصيات خاصة, فتكون هناك خصوصيات مذهبية وطائفية ومناطقية وفئوية وغيرها، والوصول إلى مثل هذا المستوى من التعددية في الخصوصية يجعل المجتمع في أجواء محتقنة ما يعني تهديدا حقيقيا لوحدة المجتمع.
4 - كلما تعمقت الخصوصية وترسخت جذورها ثقافيا ازدادت غربة المجتمع, فالمجتمع الشديد الشعور بالخصوصية يعيش في حالة شك وخوف دائم من بناء علاقة ندية مع الآخر, وحالة الانكماش على الذات تحرم المجتمع وتحرم الآخرين من فرصة التعايش مع بعض في إطار الكثير من المشتركات الإنسانية.
صحيح أن الخصوصية في شكلها المعتدل والمقبول هي جزء مهم من الهوية الثقافية، ولكن هذه الخصوصية عندما تتضخم وتتحول إلى ورم ثقافي مرضي، فإنها وباختصار تمنع المجتمع من مواجهة نفسه بإيجابية، وعلى أساس من الحقائق وليس الأوهام, وللحديث تتمة.