عتبات جديدة للطب

مع مطلع هذا القرن وقف الأطباء أمام تحدٍ يبحثون عن حلٍ له. كيف يستطيعون التدخل في جراحة القلب بإيقاف حركته؟ والجواب على هذا السؤال يحمل لغزاً معانداً!! لأن إيقاف حركة القلب يحول القلب والجسم معا ً إلى جثة، فالجراح قد يستطيع أن يعمل على قلب مجمد ميت، أما أن يقوم بعمل جراحي على قلب يرقص وشرايين تزغرد فلا يمكن.
والسبب في هذا اللغز هو تأثير البرد في القلب، فمع انخفاض درجة الحرارة يصاب القلب بالرجفان FIBRILATION فالتوقف فالموت، كما أن الدم يتخثر في العروق بظاهرة الجلطات THROMBOSIS مسببا ً كارثةً كاملةً لكل جهاز دوران الدم ، وتخريب شامل لكل الأعضاء النبيلة.
وكان على العلم أن يحل كلا اللغزين، ويجيب عن التحديين.
عرف الأطباء أن الخلية العصبية لا تعيش بانقطاع الأكسجين عنها أكثر من خمس دقائق بالحرارة العادية، في حدود 37 درجة مئوية، ولكن التبريد إلى درجة 28 مئوية يزيد من عمرها إلى ثلث ساعة، وتبريدها إلى عشر درجات مئوية يطيل حياتها إلى نصف ساعة، ولكن الهبوط (المتدرج) في درجة الحرارة إلى 28 مئوية يعرض القلب للرجفان والموت، إلا أن النزول (السريع) في درجة الحرارة يقي من الرجفان وهو المستخدم في جراحة القلب عندما يغمر القلب دفعة واحدة بالثلج بعد شق الصدر، فيتوقف القلب عن الخفقان، ويمكن أن يصمد حياً في مثل هذه الحالة إلى نحو الساعة دون حراك، فإذا انتهى جراح القلب من زرع شرايينه أو معالجة دسام معطوب، أو فتحة سائبة، أو عيب خلقي مقلوب، تم إيقاظ القلب بنفضه بصعقةٍ كهربائية، فيهتز ويتمايل، ويبدأ  في الطرب والرقص والخفقان من جديد . في أحلى سيمفونية تُعزف بين الضلوع في الصدر .
كان تطوير علم التبريد دخولاً في عالم قطبي بارد ساحر، فمن ملاحظة تخدر الحس والميل للنوم عند متسلقي جبال الهيمالايا، أمكن شق الخراجات وخياطة الجروح تحت التخدير بالتبريد. كذلك الحال في فرملة تفاعلات الخلية إلى المد في عمرها، تماماً مثل شريط الفيلم الذي يوضع على البطيء ، فيطول ويمتد زمن عرضه .
ومن هذا الفتح العلمي عكفت مجموعة من العلماء النهمين للمعرفة دون حدود، على دراسة هذه الظاهرة في أمريكا في محاولة إقامة أول مشروع لإنشاء بنك، ليس لجمع الدولارات بل لجمع (الخلايا)!! ومنه نشأت فكرة البنك (الخلوي) الأمريكي. وهو مؤسسة موجودة في ضاحية روكفيل ROCKVILLE للعاصمة الأمريكية واشنطن حيث يقوم أعظم وأهم بنك (خلوي) عرفه التاريخ العلمي حتى الآن، يضم بضاعةً (حية) هي أهم من الذهب والعملات والمعادن النفيسة والسندات المالية، فضمن ثلاثة آلاف صفحة من ( الكاتالوج ) يحدق الإنسان مذهولاً في مكتبة حية، تضم أصنافاً لا حصر لها من الخلايا الحية، التي تعيش على ظهر المعمورة، من فصائل النباتات، والجراثيم الخطيرة المميتة، والفيروسات القاتلة، والفطريات العفنة، وأجناس الطيور والزواحف، والحيوانات المنقرضة، وبقايا الشعوب والقبائل البائدة، فنحن أمام رحلة تشبه السفاري SAFARI ولكن محشورة في زنزانة مخبر، في قمقم مبرد 160 درجة تحت الصفر، في النشادر السائل، تضم مليونا ونصف المليون من القوارير الحديدية، رقدت في عمقها بنومة أهل الكهف؛ خلايا تستريح في هذا البرد المذهل مخدرة نائمة، في أنابيب جمدت مفاصلها في هذا البرد دون القطبي، يمكن أن تصمد فيها الخلايا للموت ما لا يقل عن عشرة آلاف سنة، في رحلةٍ تقترب فيها من الأبدية، تقاوم الزمن فيما يشبه أهرامات الفراعنة، في اختلافٍ عن المومياء المصرية التي ودعت الحياة وعانقت الموت، إنها تنهض إلى الحياة بين الحين والآخر، عندما يطلب منها الظهور والحضور والتكاثر، وبعض خلايا السرطان ما زالت تواصل تكاثرها المجنون المعربد منذ عام 1951م، لمريضة كانت مصابة بسرطان الرحم، فأما صاحبتها فتحولت إلى عالم العظام فهي اليوم رميم، وواصلت خلايا السرطان رحلة الحياة ثائرةً متحديةً وحيدة، تقاوم الزمن في مائة وعشرين جيلاً حتى الآن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي