الغرب المتوحش والكرنفالات والفضاء الإلكتروني في سنغافورة
إن الفضاء الإلكتروني عالم محير لحكومة سنغافورة. فمن الناحية الأولى، فإنه يكمن في قلب الإعلام التفاعلي والرقمي الذي ترغب الحكومة في تسخيره كمحرك للنمو. ومع ذلك، من الناحية الثانية، وصفه رئيس الوزراء، لي هسين لونج، أنه "الغرب المتوحش"، حيث يجد المفتري والغاضب السياسي عملة لذيذة بين عديد من مواطني سنغافورة. ووفقاً لما يقول، ففي حين أن هناك بعض الجدل المعتدل في الفضاء الإلكتروني، "إلا أن البعض منه غربي متوحش، ويمكن لجميع الأمور أن تسري، ويستطيع الناس أن يقولوا ما يشاؤون، ويتخذ المستقبل وجهة نظر مناقضة تماماً".
إن هذا الاختيار للرمزية يحصر الحكومة في نموذج مستفز عندما يتعلق الأمر بمعالجة العناصر المتناقضة في الفضاء الإلكتروني. وبناءً عليه، مثل الغرب المتوحش للحدود الأمريكية، فإن حكومة سنغافورة تعتقد أن الحل بشأن الخارجين عن قانون الفضاء الإلكتروني، هو أن يكون هناك مزيد من الشرطة، ومزيد من السكك الحديدية، ومزيد من المدن، ومزيد من القانون والنظام. وبعبارة أخرى، فإن الفضاء الإلكتروني، مثل الغرب المتوحش، يجب أن يمتثل مع ضروريات العالم "المتحضر".
على أية حال، فإن كلا من الغرب المتوحش، والفضاء الإلكتروني، أكثر من مجرد منطقة غير مقهورة. إنهما أيضاً مكانان أسطوريان في أذهان بني البشر، حيث تلتقي حدود القوى المتوحشة والحضارة معاً، ومكان حيث الرغبة المتأصلة في الإنسان والحكومات لترويض وتدجين الحيوان المتوحش، يمكن ممارستها بحرية. وبالطريقة ذاتها التي يعد فيها ترويض راعي البقر البطل للحصان البري وكأنه تعبير مجازي لانتصار الإنسان على الحيوان، فإن محاولات حكومة سنغافورة للبقاء على قمة التغيرات التكنولوجية يجب أن تكون بلا أدنى شك مجاز تعبير لانتصار السيطرة على الفوضى.
من أجل ترويض الغرب المتوحش، استثمرت حكومة سنغافورة الكثير. فعلى سبيل المثال، شهدت لجنة تعديلات القوانين عام 2008، إدخال قانون جديد – الفقرة 473 بي - لمقاضاة المحتالين الذين يصنعون، أو يمتلكون معدات تستخدم لتزوير البطاقات الائتمانية. ومثل تلك القوانين الجديدة تمكّن الشرطة من معالجة قضايا الاحتيال على الإنترنت التي تستهدف مواطني سنغافورة، حتى لو لم تنفذ عمليات الاحتيال هذه خارج سنغافورة. ويعد تأسيس المجلس الاستشاري بشأن تأثير مجتمع الإعلام الجديد في عام 2008، لتقديم توصيات حول كيفية إدارة الإعلام الجديدة دون إعاقة تطوره، مثالاً آخر.
مع ذلك، لم يكن هذا الأمر كافياًً. ففي شباط (فبراير) 2009، قام وزير الدولة الأكبر آنذاك، والآن وزير المعلومات والاتصالات والفنون، لوي توك ييو، بتوبيخ المدونين لعدم كونهم "نظاماً فعالاً ذاتي التنظيم". وكان يشير إلى الحديث غير المتعاطف الذي دار في الفضاء الإلكتروني، والذي انفجر بعد أن تم إشعال النار بعضو البرلمان من حزب العمل الشعبي، سينج هانج ثونج، من قبل سائق تاكسي سابق غاضب. وفي حين أن عدداً بسيطاً من التعليقات على الإنترنت كان متعاطفاً، إلا أن معظمها لم يكن مفيداً. وبالنسبة للوي فإن "الأعداد الكبيرة كانت غير لطيفة. وكان العدد البسيط مفترياً بشكل مباشر. والأمر برمته مخيب للآمال". وعندما لم يفعل شيئاً لدحض مزاعم أولئك المدونين، فإن مجتمع الإنترنت المحلي، بحسب اعتقاد لوي، "بدد فرصة وجود درجة أعلى من التنظيم. وكانت الخطوة ستكون مثالاً على أصالة الخطوة الأولى باتجاه نظام مسؤول، وأكثر تنظيماً للذات". ويبدو من الواضح أن الغرب المتوحش كان في حاجة إلى أن يضبط نفسه بنفسه.
سيبقى هذا الانفصال بين الحكومة والفضاء الإلكتروني طالما تختار الحكومة أن تنظر إلى الفضاء الإلكتروني على أنه أمر بحاجة إلى الضبط أو الترويض. ومن أجل الحصول على تعبير مجازي أفضل، علينا أن نلجأ إلى كتاب ناقد الأدب الروسي، ميخائيل باختين، حول الكرنفال.
بالنسبة لباختين، كان الكرنفال في أوروبا العصور الوسطى مؤسسة للمقاومة الجماهيرية. وباستخدام مؤلفات الساخر الفرنسي من القرن الـ 16، فرانسوا رابيلاس، استكشف باختين كيف كان الكرنفال بمثابة انعكاس شرير للعالم الاجتماعي. ففي الكرنفال أصبح المهرج هو الملك، وأصبح الملك هو المهرج، وأصبح الرجل الغني هو الشحاذ، والشحاذ هو الغني، وكان الوسيم هو البشع، وأصبح البشع وسيماً. وأتاح انعكاس الأدوار للجمهور المهمش سياساً أن يجعل الهرمية السياسية والملكية بشكل منبسط، والكشف عن (وحتى إهانة) احتفالات الكنيسة، وطقوس الدولة، من خلال المواقف الهزلية. وكان هدفه الأوسع نطاقاً هو أن "الكرنفالية – قلب الأدوار"، ’قلب العالم خارجاً‘، هي موقع يكون فيه البديل المتحدي للبشع والفوضى، بدلاً من النظام والسلطة، بمثابة شكل قوي من أشكال المقاومة. وكلما زادت سخافة انقلاب الأدوار، كان النقد السياسي أكثر حدة، وكلما كان العالم أكثر سخافة ودرامية، كان الظلم والهيمنة أكثر وضوحاً. وكان الضحك، وهو كذلك فعلاً، شكلاً من أشكال المقاومة الشعبية.
إن الفضاء الإلكتروني يمثل كرنفال سنغافورة. وهو المكان الذي تنقلب فيه الحياة كما نعرفها رأساً على عقب. فالجدية التي تريد الحكومة أن تمنحها للسياسة، تتعرض للاستهزاء. وتتعرض سلطة الزعماء إلى السخرية. وتتحول الخطب السياسية والتقارير إلى مساخر. وتصبح المواقع الإلكترونية الشعبية مثل إم آر براون دوت كوم، وتوكينج كوك الوجه المقبول للكرنفالية المحلية، وهناك مواقع أخرى تنز بالخطب اللاذعة الفظة وغير المنطقية عن الحكومة، كرد بشع على دعوتها من أجل "جدل سياسي عقلاني"، و"انتقاد بناء". فإذا كنت تنظر إلى الفضاء الإلكتروني على أنه "الغرب المتوحش"، عندئذ فإن الدافع هو أن تطيح به في وقت الذروة. وإذا نظرت إليه على أنه كرنفالي، فإنك تصبح فضولياً إزاء سبب كونهم ممتعضين ومقاومين.
في أوروبا القرون الوسطى، حيث كانت السلطة العليا للكنيسة والملكية، فإن المقاومة المفتوحة والعلنية من جانب الفلاحين كانت ستنذر بحتمية معينة. وكان الكرنفال أحد المجالات القليلة التي يمكن خلالها ممارسة أعمال المقاومة المثيرة للشفقة. ولم تكن مثل الممارسات تافهة لأنها كانت تخدم الوظيفة الاجتماعية المهمة المتمثلة في الهوية الجماعية. ووفقاً لباختين، فإن الجماهير التي تجمعت في الكرنفالات توقفت عن أن تكون أفراداً، بل أصبحت هوية جماعية عفوية تحاشت المؤسسة الاجتماعية السياسية الرسمية. والسبب تحديداً هو لأنها لم تمتثل إلى المؤسسات الاجتماعية السياسية الرسمية التي جعلتها مشبوهة للغاية أمام السلطات.
طالما أن مواطني سنغافورة العاديين لا يشعرون أن لهم مصلحة، أو رأيا في السياسات "الفعلية"، فإن الفضاء الإلكتروني سيبقى كرنفالياً. ورغم أن هناك قنوات مختلفة للتغذية الراجعة الحكومية على الإنترنت، مثل ريش Reach، إلا أن الكثيرين ما زالوا يشعرون أن نفوذهم على الإدارة ملغي تماماً، بالنظر إلى أن هذه الحكومة تفتخر في تجاهلها للشعبية. وطالما أن مواطني سنغافورة ينظرون إلى أنفسهم على أنهم مهمشون على الصعيد السياسي، فإن الفضاء الإلكتروني في سنغافورة سيستمر أن يعمل عمل كرنفال باختين.
خاص بـ "الاقتصادية"