قصص موت الأطباء العظماء بالعلة نفسها

في مطلع القرن العشرين عاش مجموعة من الرواد الرائعين في الطب من نموذج (فيرشوف) و(كوخ) و (باستور) و (شاودين) و (الزهايمر) .
أما رودولف فيرشوف RUDOLF VIRCHOW فقلب التصور الطبي رأساً على عقب، وأسس علم (التشريح المرضي)، واكتشف عشرات الأمراض، ونشر أكثر من ألفي بحث علمي، وبقي حتى سن الثمانين يشتغل 16 ساعة يومياً، في عشق لا يذوي للمعرفة، وأما (كوخ) فشق الطريق لمعرفة السل والكوليرا والطاعون، وكانت أمراضا من السواهي الدواهي؟
وطوَّر باستور اللقاحات وأرسى مفهوم التعقيم، ولم يكن للجراحة أن تتقدم إلا بساقين: التعقيم والتخدير.
وكُشف الغطاء أمام عين (فريتس شاودين FRITZ SCHAUDIN) ليبصر (اللولبية الشاحبة) أفعى الزنا مسببة مرض الزهري، الذي عس في أدمغة ومفاصل المصابين، ما يزيد على أربعة قرون.
وأما لويس الزهايمر LOUIS ALZHEIMER فتوصل إلى تحديد مرض العتة، الذي يحول الذاكرة إلى حطام الهشيم، وأصبح المرض مرتبطاً باسمه.
مع هذا فيخبرنا التاريخ الطبي عن علل الأطباء الذين كانوا يكافحونها وماتوا بها؟ فأما فيرشوف فمات بكسر عنق فخذ بعد سقوط، وقضى شاودين نحبه بخراج شرجي عن عمر 35 سنة، ومات مكتشف مرض الزهايمر بقصور كلوي عن عمر 53 سنة؟ ولو كان في أيامنا لامتد عمره بالغسيل الكلوي ربما عشرات السنوات، والموت خلقه الله كما خلق الحياة فتبارك المالك.
واليوم يعالج كسر الفخذ بصفيحة وبراغ، فكان يمكن لفيرشوف أن يطأ برجله ويقول هذا مغتسل بارد وشراب.
واكتشف البنسلين صدفةً البريطاني (فلمنغ ALEXANDER FLEMING ) عام 1928 م، وكان يمكن لشاودين وديكارت أن ينجوا من خراج الشرج والتهاب الصدر بسهولة من نصب وعذاب.
ورُكِّب أول مفصل صناعي للمفصل الحرقفي الفخذي TEP عام 1961م وتم استخدام أول كلية صناعية في أمريكا عام 1943 م.
كان الناس يموتون من انفجار (زائدة دودية) واليوم يجري الجراحة العصبية المعقدة (روبوتات) بدقة أجزاء من الملليمتر، بيد لا تعرف الاهتزاز، وببنية فولاذية لا يمسها نصب أو لغوب، في ساعات متواصلة من العمل الشاق، دون استراحة وفنجان قهوة.
وفي المستقبل سيبقى الجراح خارج قاعة العمليات، يراقب المخلوقات الحديدية الجديدة، ويتم حالياً تطوير جراحة الجينات، وتم تعبيد الطريق لمعرفة كامل (الكود الوراثي) عند كل المخلوقات، بما فيها الإنسان، ثم إنسان نياندرتال وقردة أورانح أوتان؟
وفي مطلع القرن العشرين كانت الأمراض الإنتانية تحصد الأرواح، واليوم تم استئصال أمراض بأكملها، من خلال اللقاحات مثل (السل والكزاز)، وتم الاحتفال بتطهير الأرض من مرض (الجدري)؛ فلم يبق إلا في الحاويات السرية، في المؤسسات الطبية، أو للاستخدام العسكري في حروب الهول الأعظم؟
وما أدراك ما يوم الفصل ويل يومئذ للمكذبين؟
وفي الوقت الذي بقي مسبب الإفرنجي مجهولاً ما بين اندلاعه عام 1496 م واكتشافه من (شاودين) عام 1905 م لفترة أربعة قرون والسيطرة عليه بالبنسلين في الخمسينيات؛ فإن فيروس الإيدز لم تتطلب تحديد هويته أكثر من أربع سنوات في ضغط للزمن مائة مرة؟
وفي الوقت الذي طحن الزهري عظام البابا (الكسندر السادس) وافترس دماغ الفيلسوف (نيتشه) فأودى به إلى الجنون، فإن الأدوية المتاحة اليوم لعلاج مالا يقل عن عشرين ألف مرض، تسببها خمسون ألف نوع من الفصائل الجرثومية والحمات الراشحة تزيد على 80 ألف دواء.
العلم ذو طبيعة تقدمية، له ناظم أخلاقي ذاتي، ينمو بآلية الحذف والإضافة والتراكم المعرفي، ويزدهر في جو العقلانية والتفكير بدون قيود، ويدعم بالإنفاق المالي، ويحصد الكثير في صدف بحتة في جو عمل ملتهب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي