السلام الروماني

قليلة هي تلك الكلمات التي تحمل في ثناياها مفاهيم مختلفة, والسلام كلمة سلسة تتردد كثيرا ويتنافس المتنافسون في إقناع الناس بأنهم يعملون من أجل السلام. ولا غرابة في ذلك, فالرجل الذي خصص جائزة نوبل للسلام كان مخترعا للديناميت الذي حقق من ورائه الملايين. والشاعر أحمد شوقي يقول مخاطبا ابنته في عيد ميلادها وهو يهديها بندقية:
فخذي هاك بندقية نارها
سلام عليك إذا تسعر
فمن يعدم الظفر بين الذئاب
فإن الذئاب به تظفر
ويقول البعض في تفسير المصافحة بالأيدي كعلامة من علامات المودة والصداقة, إن اليد الخالية من السلاح التي تتقدم للمصافحة هي رمز للسلام. والسلام عليكم تحية الإسلام تمجيد لفكرة السلام الذي نتمناه لمن نقابلهم. ومن جمال هذا التعبير أن البعض يطلقه إذا ما رأى شيئا يعجبه فيقول "يا سلام".
والطريف أن أكثر العدوانيين والقتلة ضراوة وشراسة يتحدثون عن سلام من نوع خاص بهم, مثل السلام الذي تتحدث عنه إسرائيل كثيرا وهي مدججة بالسلاح وتمارس القتل والتعذيب يوميا. ومن الطرائف أيضا أن معظم اتفاقات المهادنة يطلق عليها اتفاقيات سلام. وأشهرها معاهدة فرساي التي صمدت من 1918 إلى 1939 حينما عصفت مدافع الحرب لأن المعاهدة كانت بالغة الظلم لألمانيا. وكل المعاهدات التي تنطوي على تجاوز مصيرها هو مصير فرساي وغيرها.
وأكثر ساسة العالم ترديدا لعبارة السلام هم الأمريكيون. والملاحظ أنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبقاء الولايات المتحدة قوة واحدة دون منافس, خاصة بعد أن تم لها احتواء وتقزيم حلفائها السابقين, نجدها تتحدث عن سلام من نوع خاص, وهو السلام الأمريكي على غرار السلام الروماني.
وحتى نبدد الملابسات نتوقف قليلا أمام تعبير السلام الروماني, لقد تزايدت نزعة الأمريكيين في تشبيه موقفهم بعدما انفردوا بقيادة العالم بروما القديمة التي كانت القوة الوحيدة في العالم بعد أن دالت دول السومريين والآشوريين والبابليين وقدماء المصريين والإغريق. وظهرت في روما حضارة عسكرية محضة عمادها السيف والدروع, ونجحت في احتلال معظم دول العالم وقتئذ, وأصبحت كلمة روما هي العليا, أما الآخرون في أوروبا ومصر والشام والشمال الإفريقي فقد صمتوا صمت الحملان أمام الألوية LEGIONS كما كانت تسمى جيوش الرومان.
وصلت قوة روما العسكرية ذروتها بعدما نجح قيصر في تصفية خصميه بومبي وكراسوس, الأول هلك في مصر والثاني في بلاد الشام. ولكن الجمهوريين الرومان بقيادة بروتوس وكاسيوس وشيشرون وكاسكا لم يمهلوا قيصر طويلا للاستمتاع بصفته الجديدة كأقوى رجل في العالم يفرض كلمته فتصبح حربا أو عفوا وفي كل الحالات كان السلام إرادة رومانية ومصلحة رومانية. نجح ابن قيصر بالتبني أوكتافيان أو أوكتافيوس في الثأر لوالده الروحي بمشاركة من أنطونيوس وليبدوس, الأول انحاز إلى كليوباترا في مصر فهزمه أوكتافيوس في أكتيوم في الأرخبيل اليوناني, والثاني قرأ ميزان القوى فقبل أن يعمل تحت قيادة الرجل القوي أوكتافيوس. بعدما استتب الأمر لأوكتافيوس أطلق على نفسه اسم أوجستس Augustus أو أغسطس كما سماه مترجمو الشام وأطلق اسمه على الشهر الثامن من التقويم الجريجوري بعدما أطلق اسم يوليوس قيصر على الشهر السابع.
كان أوجستس أول قيصر يطلق مصطلح السلام الروماني, واستمر هذا المصطلح سائدا لمدة 200 عام بدءا من عام 27 قبل ميلاد المسيح ـ عليه السلام ـ حتى موت القيصر ماركوس أوريليوس عام 180 ميلادية. كانت هذه الأعوام فترة استقرار نسبي داخل الإمبراطورية مقارنة بالقرن الذي سبقها والقرن الذي تبعها, وأثناء سنوات التوتر والحرب قبل وبعد الـ 200 عام من السلام الروماني وقعت حروب أهلية عديدة بسبب رئيسي هو: من يحكم روما؟ ومن الذين ستحكمهم روما؟
ويود الأمريكيون تثبيت عقارب الساعة مثلما ثبتت واستقرت لقرنين مع الرومان. ويقول إدوارد جيبون في كتابه الرائع الذي كتبه 1799, ويعد مرجعا لا غنى عنه لكل دارسي العلوم السياسية والتاريخ "إن الرعب الذي تمثل في الأسلحة الرومانية أضاف وزنا وهيبة لاعتدال الأباطرة, وقد نجحوا في الحفاظ على السلام باستعدادهم المستمر للحرب, وبينما كان العدل أساسيا لتقويم سلوكهم, فقد أعلنوا لجميع الدول المجاورة أنهم لا يتحملون المخالفات ولا يرتكبونها في حق الآخرين".
ويذكر في هذا الصدد أن الإمبراطورية العثمانية كانت مهابة بسبب استراتيجيتها القائمة على الاستعداد المستمر للحرب, ومن هنا ظلت قوة مخيفة لأوروبا وآسيا لـ 300 عام على الأقل.
ونلاحظ أن الفكرة نفسها تساور الأمريكيين الآن, فهم يسعون إلى تشييد إمبراطورية تتمتع ـ ولو وهما ـ بسمعة العدل والعطاء, ولكنها تخيف العالم أجمع بأسلحتها الفتاكة وقدرتها الاقتصادية الكبيرة وتكون النتيجة سكونا واستقرارا وخوفا وتجنبا لغضب القوي. وهذا هو جوهر السلام الروماني الذي دفعت روما ثمنا باهظا قبل أن تحققه.
ويرتبط السلام الروماني بحكم أوجسطس كما أشرنا وكانت سلطته مطلقة في مناحي الحياة كافة. وكان ذكيا بحيث أدرك أن بقاء البرلمان مهم لكبح جماح الارستقراطية, فأبقى مجلس الشيوخ ولكنه طهره من كل خصومه وأبقى فيه أنصاره فقط. ولذلك أقسم مجلس الشيوخ يمين الولاء لأجسطس وجعله حاكما مدى الحياة. ولم يخلع أجسطس من الحكم إلا الموت بعد 40 عاما قضاها في السلطة, وكان الشعب الروماني يعبد عبقريته وأطلق على نفسه اسم "ابن الله".
وإن كان أجسطس قد أنقذ الإمبراطورية إلا أنه دمر المؤسسات وأصبح الحاكم ورجل الدين الأول والرقيب الأوحد وكان المواطن الأول والأب الروحي والملك والإمبراطور. وهكذا أصبحت حكومة جمهورية روما مسؤولة فقط أمام الإمبراطور. وأدى ذلك فيما بعد إلى أن حكاما ليسوا في كفاءة ودهاء أوجسطس أساءوا استخدام السلطة الواسعة التي أورثها لهم. لذلك جاءت مرحلة العبيد الذين بلغ عددهم عدد المواطنين أنفسهم. وكان بعض الآباء يبيعون أولادهم كعبيد وصدرت قوانين تميز بين الأحرار والعبيد. ويتجاهل أنصار تطبيق السلام الروماني الظروف والملابسات التي واكبت وجوده في بلده الأصلي, خاصة القسوة والضراوة اللتين اتبعتهما السلطة لتأسيس الإمبراطورية, ويتجاهلون العنف الذي استمر في عهد أجسطس ضد كل من لم يرغب في أن يحكمه هذا الحاكم.
وكانت المقاومة تقمع بوحشية نادرة, كما أن محافظة روما على السلام مع جيرانها كانت طريقا مزدوجا. فقد اضطر أوجسطس بكل مهارته وبراعته العسكرية إلى طلب التهدئة على حدوده وأوقف حملات الغزو نتيجة لهزيمة مروعة لقيها على يد جيرمانيا, حيث فقد ثلاثة ألوية تماما وعاد ليتحدث عن تأمين الحدود. ولهذا استمر السلام ليس لأن روما بقيت الأقوى, وإنما لأنها نزعت للسلام وأصبحت أقل تهديدا للآخرين, ومن ذا الذي يحارب جارا قويا مسالما؟
لكن دعاة السلام الروماني بعد إلباسه ثوب الأمريكيين يميلون إلى تناسي هذه الحقيقة والاعتماد على أسلحتهم وقوتهم للحصول على موارد الدول الأخرى, ونشر نوع جديد من الديمقراطية ينطوي على زرع عملائهم والتبشير بالحرية من خلال هذا التدخل المخل.
ومثلما كان السلام الروماني فترة للرومنة فإن السلام الأمريكي في رأي دعاته فرصة للأمركة. ومن دون احتلال أراضي الغير بالقوة فإن هناك وسائل جديدة تجعل دولة ما في مكانة المستعمرة بالحصول منها على كل ما يريده المستعمر من مواقف سياسية وتنازلات اقتصادية, وهذا هو جوهر العولمة.
أما العنصر الثاني في السلام الروماني والذي يعجب الأمريكيين كثيرا فهو تملك الإمبراطور جميع موارد الإمبراطورية, ذلك أن جميع الشعوب المحيطة بروما وكل مستعمراتها كانت تدفع الضرائب لروما وتتيح لها الحصول على ما تريد سواء من أرضها أو أبنائها أو غير ذلك. وكانت المقاومة الكبرى لروما تأتي من الدول الغنية مثل إسبانيا وجاليكا حيث مناجم الذهب.
ولكن هناك عنصرا مهما في السلام الروماني رفضه فريق المحافظين الجدد, وهو التزام القيصر أوجسطس بتنفيذ مشاريع الأشغال العامة, وقد استثمر أوجسطس فعلا في هذه المشاريع ولم يخصص الأموال كافة للماكينة العسكرية, فبنى المسارح والمعابد والجسور والمساكن العامة والحمامات العامة والطرق وغيرها. ولعل أبرز إسهام له كان في مجال الثقافة وترعرع في عهده كبار الفلاسفة والأدباء. ولكن المحافظين الجدد في أمريكا الذين يدعون افتنانهم بالسلام الروماني احتفظوا للأسلحة والجيوش بمعظم الميزانيات ولكن من الواضح أن أمريكا تود استعارة عبارة "ما يصلح لروما يصلح للعالم". وهكذا فإن جهود أمريكا لزيادة ثروتها على حساب الغير وزيادة قوتها لا ينبغي مناقشتها لأنها في مصلحة السلام العالمي, وهو الذي سيحمل العدل للأعداء قبل الأصدقاء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي