الطريق إلى إنشاء منظمة الدول المصدّرة للغاز (5)

نخلص من جميع ما سبق إلى استنتاج ما يلي:
أولا: إن روسيا وجدت أن التنسيق بين الدول الرئيسية المصدرة للغاز في إطار منتدى الدول المصدرة للغاز FGEC ليس كافيا لحماية مصالحها وتقوية مركزها التفاوضي مع مستوردي الغاز، لأن هذا المنتدى لا يعدو أن يكون إطارا غير رسمي للتشاور وتبادل المعلومات، وبالتالي لا يملك سلطة إصدار قرارات ملزمة، ولذلك فقد لجأت روسيا إلى آلية أكثر إحكاما من الناحية القانونية، وهي إبرام اتفاقات تعاون ثنائية تبرم بين شركتها الحكومية العملاقة (غاز بروم) وشركات حكومية في بعض الدول الرئيسية المصدرة للغاز مثل الجزائر ومصر بهدف تحقيق أكبر قدر ممكن من التعاون بين هذه الشركات يجعلها قادرة على التحكم في حركة تجارة الغاز الدولية إنتاجا وتسويقا وتسعيرا.
ثانيا: إن التعاون بين روسيا والجزائر في مجال الطاقة اتسم بالطابع الاستراتيجي الهادف إلى حماية مصالح مصدري الغاز. وحاولت الدولتان في البداية تهدئة مخاوف الاتحاد الأوروبي بنفي اعتزامهما على إنشاء منظمة للدول المصدرة للغاز، إلا أن هذه المخاوف بقيت قائمة، لأن الاتحاد الأوروبي توجس خيفة بأن يكون التعاون الروسي – الجزائري نواة لإنشاء هذه المنظمة في المستقبل، خصوصا أن روسيا والجزائر لم تستبعدا بشكل مطلق فكرة إنشاء منظمة دولية للغاز، وإنما أعلنتا أن هذه الفكرة سابقة لأوانها أو غير عملية في الوقت الحاضر، بل إن الرئيس بوتين وصفها بأنها فكرة مثيرة للاهتمام، وهذا يعني أن من المحتمل تحقيق هذه الفكرة وإخراج المنظمة إلى حيّز الوجود إذا أصبحت الظروف الاقتصادية والسياسية الدولية ملائمة.
ثالثا: إن روسيا لم ولن تتخلى عن فكرة إنشاء منظمة دولية للغاز تحت قيادتها، وستسعى إلى تنفيذها، لأن الاستراتيجية التي عرضها الرئيس بوتين على مجلس الأمن القومي الروسي في كانون الأول (ديسمبر) 2005 تتضمن خطة لمشروع النهوض بروسيا إلى (قوة عظمى من خلال الطاقة)، فروسيا تملك احتياطيات هائلة من النفط والغاز، فهي أكبر منتج ومصدر للغاز في العالم، وثاني أكبر منتج للنفط في العالم بعد المملكة العربية السعودية، كما أنها تملك مميزات طبيعية تنافسية تجعلها في موقع قيادي عالمي في هذا المجال. ولذلك فإن إنشاء منظمة دولية للغاز تحت قيادتها سيعطيها أداة قوية تساعدها على حماية مصالحها الوطنية وفرض إرادتها الاقتصادية، بل والسياسية أيضا، ومن ثم استعادة مكانتها الدولية كقوة عظمى ينبغي أن يحسب حسابها في الشؤون الدولية. وفي هذا الصدد أنقل هنا ما جاء في مقال الكاتب الصحافي الأمريكي المعروف توماس فريدمان، المنشور في جريدة "الشرق الأوسط" بتاريخ 27/10/2006 بعنوان "روسيا وأوروبا: زواج متعة أم شراكة"، حيث قال ما يلي:
"وعندما يذكر لك الأوروبيون أنهم يخشون من "حرب باردة" جديدة، فإنهم يتحدثون هذه المرة عن درجة الحرارة – والخوف من روسيا، إذا ما أرادت موسكو وقف إمدادات الغاز، وهو ما يمكن أن يجعل أوروبا تعاني البرد. فـ 40 في المائة من الغاز الطبيعي الذي تستورده أوروبا قادم من روسيا، ومن المتوقع زيادته إلى 70 في المائة بحلول عام 2030، ومع ارتفاع الأسعار، فإن روسيا قد تحولت من رجل أوروبا المريض إلى الرجل القوي، فلقد أصبحت لروسيا تأثيرات أكبر، على أوروبا الغربية، "بأنابيب الغاز أكثر من تأثيرها بصواريخ إس إس 20" النووية ذات المدى البعيد".
ونضيف إلى ما سبق أن روسيا قد بدأت تضيق ذرعا بالهيمنة الأمريكية على العالم، وظهر ذلك جليا من الانتقادات اللاذعة التي وجهها الرئيس الروسي بوتين إلى الولايات المتحدة الأمريكية في خطابه الذي ألقاه يوم 10/2/2007 أمام مؤتمر ميونيخ حول الأمن الدولي، حيث اتهم الولايات المتحدة بتجاوز كل الحدود وخرقها القوانين الدولية في سعيها لفرض إرادتها على العالم، الأمر الذي جعل العالم أقل استقرارا وأمنا. ويرى بعض المحللين أن تصريحات الرئيس بوتين تدل على رغبة روسيا وسعيها إلى العودة كقطب دولي كبير وفاعل في السياسة الدولية بعد أن استردت عافيتها الاقتصادية بفضل أسعار النفط والغاز المرتفعة.
رابعا: لقد خيمت فكرة إنشاء منظمة دولية للغاز على اجتماع منتدى الدول المصدرة للغاز الذي انعقد في الدوحة يوم 9/4/2007. وظهر جليا من التصريحات التي أدلى بها بعض وزراء الدول المشاركة في هذا الاجتماع أن الفكرة أصبحت تلقى ترحيبا من أغلب الدول الرئيسية المصدرة للغاز مثل روسيا، الجزائر، إيران، فنزويلا، وبوليفيا، وأن موافقة منتدى الدول المصدرة للغاز على إنشاء لجنة رفيعة المستوى برئاسة روسيا لإعداد التوصيات بشأن تعميق التعاون بين الدول المصدرة للغاز وتفعيل دور المنتدى لطرحها على الاجتماع المقبل للمنتدى والمقرر عقده في موسكو عام 2008 قد يكون الخطوة الرئيسية نحو تحويل هذا المنتدى إلى منظمة دولية للغاز.
خامسا: إن الادعاء بأن إنشاء منظمة دولية للغاز يتعارض مع طبيعة عقود الغاز التي تتسم بطول الأجل، ينقضه حقيقة تاريخية، وهي أنه عندما تم تأسيس منظمة الأقطار المصدرة للبترول "أوبك" سنة 1960 كانت عقود الامتيازات النفطية المبرمة بين الدول المنتجة للنفط وشركات النفط العالمية تتسم أيضا بطول الأجل، واستطاعت الدول المنتجة للنفط من خلال التعاون والتنسيق تحت مظلة "أوبك" أن تدخل بشكل تدرجي تعديلات جوهرية على عقود الامتيازات النفطية لصالحها.
سادسا: أما بشأن ادعاء الوكالة الدولية للطاقة بأن التكتلات والاتحادات الدولية في مجال الطاقة غير مجدية للدول المنتجة، وأن نظام السوق هو الأكثر نجاعة. فالبادي من هذا الادعاء أن الوكالة نسيت أنها في حد ذاتها تكتل احتكاري للمشترين، أي للدول الرئيسية المستوردة للنفط والغاز يستهدف ترجيح مصالح المستوردين على مصالح الموردين، ولو أدى ذلك إلى انتهاك القواعد الأساسية لمبدأ المنافسة وآلية السوق القائمة على قانون العرض والطلب.
سابعا: ومن جهة أخرى، فلعل من المناسب أن نعيد إلى الأذهان السبب الرئيسي الذي دفع الدول الرئيسية المنتجة للنفط إلى إنشاء منظمة "أوبك"، وهو سيطرة شركات النفط العالمية صاحبة الامتيازات في هذه الدول على صناعة النفط إنتاجا وتسويقا وتسعيرا، وقيامها بتخفيض أسعار النفط بإرادتها المنفردة في عامي 1959 و1960 دون أي مراعاة لمصالح الدول مانحة الامتيازات ومالكة الثروات النفطية. كذلك ستكون السياسة الموحدة للاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة عاملا محرضا للدول المصدرة للغاز على تنظيم التعاون فيما بينهما بشأن الإنتاج والأسعار من خلال تكوين منظمة دولية على غرار منظمة "أوبك" لمواجهة خطط أوروبا بشأن تحرير سوق الغاز والانتقال من العقود طويلة الأجل إلى العقود قصيرة الأجل، بهدف تخفيض أسعار الغاز، الأمر الذي سيؤثر سلبا في الدول المصدرة للغاز. يضاف إلى ذلك أن أوضاع أسواق الغاز في غرب أوروبا مازالت غير مريحة للدول المصدرة للغاز، وقد انتقده صراحة وزير الطاقة الجزائري، حيث أشار إلى أن شركات الدول المنتجة للغاز تجد صعوبة في دخول كثير من الأسواق الأوروبية في مجال توزيع الغاز مباشرة للمستهلكين رغم الحديث في الدول الأوروبية عن انفتاح السوق، معتبرا هذا الأمر مازال بعيدا عن التطبيق الفعلي، موضحا أنه أصبح من الصعوبة بمكان على شركات مثل غاز بروم الروسية أو "سوناطراك" الجزائرية أو غيرهما من خارج الدول المستهلكة الدخول في هذه الأسواق، والتنافس في شفافية كاملة مع الشركات الأخرى من الدول الأوروبية المستهلكة. وانتهى الوزير الجزائري إلى المطالبة بتكوين منظمة للدول المصدرة للغاز وتحديد أوليات عملها، ورأى أن البداية يمكن أن تهتم بموضوع الأسعار الذي يوحد جميع الدول المصدرة للغاز، وهو المدخل المناسب الذي يجمع هذه الدول.
وترتيبا على كل ما سبق يمكن القول إنه ليس من المستبعد في المستقبل القريب أن تخرج إلى حيّز الوجود منظمة دولية للغاز للدفاع الجماعي عن مصالح مصدري الغاز والتأثير في أسواق الغاز العالمية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي