الأسعار تتصاعد والريال ينخفض والناس تختنق
حوقل البعض وتعوذ من القرار الذي اتخذه بنك الكويت المركزي منذ أيام برفع قيمة الدينار الكويتي مقابل الدولار. وقللوا من فوائد هذا الإجراء على الرغم من أنهم أشادوا سابقا بسياسة ربط الدينار الكويتي بسلة العملات التي درجت عليها خلال الـ 30 عاما الماضية إلى ما قبل الاتفاق الخليجي في مشروع توحيد العملة في عام 2002م. المحذرون كانوا من المؤيدين لهذا الربط حتى أنهم بينوا كيف حقق برميل النفط الكويتي في فترة التقلبات الشديدة للعملات العالمية في الثمانينات، قوة شرائية أعلى من نظيره السعودي والإماراتي، بل إنهم نصحوا الكويت في تلك المقالات بعدم العودة إلي ربط عملتها بالدولار لما له من عواقب تضخمية خاصة فيما يتعلق بالسلع المستوردة من اليابان وأوروبا. لكنهم اليوم غيروا رأيهم! فهم يرون أن الإجراء الكويتي بالعودة إلى ربط الدينار بسلة عملات قد جانبه الصواب على الرغم من الخبرة الكويتية في هذا الشأن! لأن أثر هذا الإجراء على مكافحة التضخم ضئيل، وسيعرض الدينار الكويتي لهجمات قوية وسريعة للمضاربين عليه، كلما انخفض الدولار أو ارتفعت أسعار النفط، لتوقعهم أن بنك الكويت المركزي سيرفع قيمة الدينار مقابل الدولار.
ثم حذروا دول الخليج الأخرى من أن تحذوا حذو الكويت، لأن رفع سعر صرف الريال السعودي أو القطري، أو الدرهم الإماراتي، لن يخفف (كذا) من مشكلة التضخم في هذه الدول. وملخص نصيحتهم هي: ليس لكم من الأمر شيء! فتغيير سعر صرف الريال مسألة أعقد مما يظن كثير من الناس. والتضخم المستورد هو جزء من مشكلة ارتفاع الأسعار وليس كل المشكلة. وإن مواجهة التضخم المستورد برفع سعر الريال مقابل الدولار لن يكون له تأثير يذكر، لأن الوزن الأكبر للتضخم يعود إلى أسباب داخلية تتعلق بسياسة الإنفاق المالي المتعلقة بإقامة مشاريع البنى التحية. وأن على جمهور المواطنين أن يتحملوا وحدهم دون غيرهم دفع ثمن انخفاض سعر الريال، وما عليهم سوى أن يتعلموا كيف يتعايشوا مع التضخم. وأنه يكفي استفادة الخزانة العامة من هذا الوضع من خلال زيادة قدرتها على توليد مزيد الريالات مع كل انخفاض في سعر الدولار، وأن على المواطنين أن يحمدوا ما يحققه انخفاض سعر الدولار من زيادة القوة التنافسية لصادرات رجال أعمالنا وشركاتهم من السلع غير النفطية، عجبي!!
وبعيدا عن العواطف، دعونا بدورنا نناقش الأمر بموضوعية وببساطة:
أولاً: إن المطالبة بإعادة النظر في سعر صرف الريال مقابل الدولار، غرضها الأساسي هو حماية اقتصادنا ومستوى معيشة عموم المواطنين جراء الانخفاض المستمر في سعر الدولار.
ثانيا: أوضحت في مقالات سابقة أنه يجب علينا أن نفرق في الوقت الراهن بين الحاجة لرفع سعر الريال مقابل الدولار مع بقاء ارتباط الريال بالدولار، ورفعه عن طريق ربطه بسلة عملات، كما فعلت الكويت. وقلت إن المطلوب حاليا هو رفع سعر صرف الريال مقابل الدولار مع بقاء ارتباطه به. وإن هذه الدعوة هي لإعادة سعر صرف الريال الحقيقي مقابل الدولار لوضعه السابق. وليس من المصلحة ترك الثغرة بين الريال والدولار تتسع لفترة طويلة، لأن علاجها فيما بعد سيكون أصعب وأضعف أثرا. وإني أسأل من يصر على بقاء سعر الصرف على ما هو عليه خوفا من التأثير في صادراتنا غير النفطية، هل كانوا سيطالبون بخفض سعر صرف الريال لو بقي الدولار على معدل صرفه القديم لكي تزيد درجة منافسة صادراتنا؟ ومع ذلك، فإن أثر رفع سعر الريال في صادراتنا غير النفطية أو خدمات الحج والعمرة يعتمد على مرونة الطلب الخارجي عليهما، وسبق أن وضحت أن الطلب على الأخيرة بالذات غير مرن وأن الانخفاض النسبي المتوقع فيها مرغوب فيه بالنظر لضيق المشاعر المقدسة.
ثالثا: إن الحاجة إلى رفع سعر الريال مبنية على أساس أنه فقد ثلث سعره الحقيقي مقابل الدولار خلال الـ 20 سنة الماضية، وإن هذا الانخفاض مستمر وكل الدلائل والدراسات المتعلقة بواقع الاقتصاد الأمريكي تشير إلى استمراره في هذا الاتجاه. وهو بذلك يسهم بشكل مباشر في ارتفاع أسعار السلع المستوردة من منطقتي اليورو والين واللتين تمثلان ثلثي وارداتنا. فهل سنبقى متفرجين على استمرار تدهور سعر صرف الريال؟
رابعا: ل توجد سياسةا ثابتة فيما يتعلق بأسعار الصرف، إذ يمكن أن تتغير- ضمن حدود وضوابط معينة - وفقا للمصلحة الوطنية. ومن مهام السلطات النقدية دراسة ومراقبة تغيرات أسعار الصرف الدولية واتجاهاتها المستقبلية وتبني سياسة سعر صرف مناسبة للعملة الوطنية تأخذ في الاعتبار مصلحة جميع قطاعات المجتمع: الحكومة، والتجار، وكذلك عامة الناس، وليس من العدل تبني سياسة تراعي مصالح جهة وتتجاهل مصالح جهة أخرى.
خامسا: لم يقل أحد مطلقا بإن على السلطة النقدية أن تعلن على الملأ نتائج هذه الدراسة أو عن نواياها فيما يتعلق بالسياسة المستهدفة. وإنما العكس تماما هو المطلوب، وهو أن تتم مثل هذه الدراسات في سرية بالغة، ولا تتسرب نتائجها أو ما سيُبنى عليها من سياسات لأحد مطلقا بل يكون الإعلان عنها مفاجئا! وإذا اتضح أن أشخاصا (أو أحد أقاربهم) قاموا بعمليات اقتصادية مشبوهة قبل الإعلان عن سياسة تغيير سعر الصرف بغرض الاستفادة من مثل هذه السياسة، فللسلطات أن تحاكم وتجرم هذا السلوك، وتنتزع المكاسب المتحققة.
سادسا: علينا أن نقر أن الأمور نسبية. فرفع سعر صرف الريال لن يحل المشكلة كلها ولكنه قطعا سيحل جزءا مهما من مشكلة التضخم المستورد. لكن يلزمنا أيضا التصدي للتضخم المحلي بسياسات مالية ونقدية وتجارية أخرى مناسبة وأكثر فاعلية عما عليها الآن. والمهم هو أنه ليس من العدل أن يترك الناس فريسة لجحيم تضخم الأسعار المستمر لمجرد المحافظة على استقرار سعر الصرف، خاصة في ظل التحسن الكبير جدا في وارداتنا النفطية. إن المحافظة على استقرار سعر الصرف ليس هدفا مقصودا بذاته! وكأن عملات العالم الأخرى لم تتغير قيد أنملة عن وضعها خلال الـ 20 سنة الماضية.
هل بات على السعوديين أن يتشاءموا من ارتفاع أسعار النفط؟ بعد المآسي والمصاعب الاقتصادية التي عاصروها في السنوات القليلة الماضية؟ من المؤكد أننا في حاجة ماسة إلى عمل شيء ما. وإذا كان علينا أن نتعايش مع جزء مقبول ومعقول من التضخم، فعلى جميع قطاعات المجتمع أن تتحمل نصيبها من تكلفته الباهظة.