قراءة لنظرية في تفسير الإرهاب هل الإسلام هو الأصل؟ (1 من 2)
لمرات يصعب حصرها، كرر كثير من الكتاب والمحللين الغربيين وبعض من العرب والمسلمين القريبين من طريقة تفكيرهم، نظرية بعينها حول تفسير نشأة الموجة الحالية من الإرهاب الدولي المرتبط بالإسلام واتساعها في السنوات الست الأخيرة. وتقوم تلك النظرية على عمودين رئيسيين أحدهما رئيسي والآخر ثانوي، أولهما أن أصل الإرهاب فكراً وممارسة إنما هو طبيعة الدين الإسلامي نفسه الذي يتضمن عناصر وجذورا تفتح الباب للرؤى والتفسيرات التي يتبناها المتطرفون والإرهابيون، أما ثانيهما فهو أن غياب الديمقراطية وهيمنة نظم وقيم الاستبداد على الدول والمجتمعات المسلمة يمثل دافعاً مهماً للجوء عديد من أبنائها إلى الإرهاب كفكر وممارسة للتمرد على ذلك الوضع.
وكما هو واضح، فإن هذه النظرية تقوم في الأساس على أن العوامل والدوافع التي تشكل الظاهرة الإرهابية المعاصرة توجد فقط في الساحة الداخلية للمسلمين سواء كانت دينهم نفسه أو أوضاعهم السياسية غير الديمقراطية، وتبدو كعوامل ودوافع هيكلية دائمة ومستمرة منذ زمن طويل. ولا يبدو في هذا التفسير أي أثر لوجود عوامل أو دوافع خارجة عن إطار هذه الساحة الداخلية، سواء تعلقت بسياسات راهنة لدول غير مسلمة أو بتفاعلات تاريخية كانت بعض تلك الدول طرفاً مباشراً فيها مع دول ومجتمعات إٍسلامية، فالخارج في تلك النظرية بكل مكوناته السياسية والفكرية والتاريخية ليس فقط غير مسؤول عن تشكل الظاهرة الإرهابية الحالية ذات الصلة بالإسلام، بل هو لدى أصحاب تلك النظرية الضحية الرئيسية لها. ويذهب أصحاب تلك النظرية إلى القول إن الحديث عن العوامل الخارجية في تفسير نشأة تلك الظاهرة، إنما هو محض هروب من المسؤولية الذاتية العربية والإسلامية ومحاولة لإلقائها على الآخر الخارجي الذي ليس له صلة حقيقية بها، فضلاً عن أنه يشكل نوعاً من التبرير لنشأة الإرهاب واستمراره بالصورة الدموية الكريهة التي يبدو عليها اليوم.
فأما ما يتعلق بالدين الإسلامي وتاريخه الطويل، فإن أصحاب تلك النظرية يرون أن أفكار التعصب والإقصاء والتكفير للمختلفين في الرأي والرؤية سواء كانوا من المسلمين أو غير المسلمين، إنما هي أفكار متجذرة وشائعة لدى مختلف المذاهب والمدارس والفرق الإسلامية وتمثل جزءاً أصيلاً من بنيتها الفكرية والعملية. ويذهب هؤلاء إلى قراءة مختلف مراحل التاريخ الإسلامي منذ خلافة أبي بكر الصديق باعتبارها تأكيداً لتلك الرؤية، حيث يركزون فيها فقط على الخلافات والصراعات التي شهدتها وبخاصة ما أدير منها بالعنف والقتال بين طوائف المسلمين أنفسهم، ويرون أنها جميعاً نشبت لأسباب تتعلق برؤية كل طرف فيها للآخر من منظور الإقصاء والتعصب والتكفير. ويذهب هؤلاء بعد ذلك إلى انتقاء أفكار أكثر الفرق والاتجاهات الإسلامية غلواً وتطرفاً لكي يشيعوا أنها تمثل الإسلام الحقيقي بكل اتجاهاته، متجاهلين الحقيقة التي يعرفها كل دارس موضوعي ومحايد لتاريخ الإسلام الفكري والعملي، وهي أن تلك النوعية من الفرق والاتجاهات المغالية في أفكارها وممارساتها ظلت دوماً تمثل الأقلية الهزيلة في المسار العام لهذا التاريخ، الذي شكلت مختلف مراحله بجوانبها الفكرية والعملية الفرق والاتجاهات الوسطية المعتدلة التي ضمت دوماً الغالبية الساحقة من المسلمين. ويبدو واضحاً في تلك الطريقة الانتقائية التعسفية في قراءة التاريخ الفكري والعملي للإسلام أن أصحابها يحملون قبل الشروع فيها رؤية مسبقة لهذا التاريخ، يسعون عبر هذه الطريقة التي لا تمت للموضوعية أو العلمية بصلة إلى إثباتها حتى لو استلزم ذلك لي عنق وقائع وحقائق ثابتة في ذلك التاريخ.
وفي سعي أصحاب هذه النظرية إلى إثبات مسؤولية الإسلام فكرياً وعملياً عن نشوء واستمرار الظاهرة الإرهابية المرتبطة به حالياً، راحوا يسقطون في قراءتهم المتعسفة للخلافات والصراعات التي عرفتها بعض مراحل التاريخ كل العوامل والسياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والشخصية التي أحاطت بها والتي لا يمكن الوصول لتفسير حقيقي لها دون التطرق إليها، مفضلين الاقتصار في تحليلهم لها على ما شملته وأحاط بها من مقولات ونصوص ذات طابع ديني تبناها أطرافها في معظم الحالات لتبرير مواقفهم في تلك الخلافات والصراعات والسعي لإعطائها مسحة شرعية مستمدة من الإسلام. ويبدو واضحاً في هذه الرؤية مدى تناقضها مع العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة وبخاصة ذات الأصل الغربي، التي لا ترى في الأفكار بمفردها عاملاً وحيداً محركاً ومفسراً للوقائع التاريخية الكبيرة، وتضيف دوماً إليها عوامل أخرى واقعية متعددة، بما يعطي في النهاية تفسيراً مركباً لهذه الوقائع. كذلك فهذه الرؤية تتناقض مع ما استقرت عليه علوم ومناهج دراسة تاريخ الأفكار وتطورها، وبخاصة علم اجتماع المعرفة، التي على الرغم من إعطائها بعض الوزن للعوامل الداخلية لتلك الأفكار في تطورها التاريخي، إلا أنها تعطي الوزن الأكبر للعوامل الاجتماعية بمختلف صورها وأشكالها المحيطة بها في تفسير ظهور واختفاء وتطور تلك الأفكار عبر التاريخ.
واتباعا للمنهج نفسه المبالغ في تقدير دور الأفكار في صنع التاريخ الإسلامي، يطرح أصحاب تلك النظرية تفسيرهم لنشوء واتساع ظاهرة الإرهاب المرتبط بالإسلام الحالية لكي يرجعوها بالدرجة الأولى لما يرون أنها خصائص هيكلية في الفكر الإسلامي تقود دوماً إلى الغلو والعنف والإرهاب، وليس لأي عوامل أخرى خارجة عنه، عدا غياب الديمقراطية وهيمنة نظم وقيم الاستبداد على الدول والمجتمعات المسلمة، الذي يرونه فقط دافعاً للإرهاب وليس جذراً أصيلاً لأفكاره وممارساته. وللحديث بقية.