العالم لم يعد أكثر أمناً
من المبررات التي ساقتها إدارة الرئيس بوش لاستخدام عضلاتها العسكرية بدلا من عقلها السياسي لمواجهة ما تسميه بالهجمة الإرهابية القادمة من الشرق الإسلامي ضد الحضارة الغربية هي جعل العالم أكثر أمنا، ودون الخوض في جدل حول مقولة الإرهاب الإسلامي، والانشغال عما يعانيه العالم من حالات توتر تزداد يوما بعد يوما.
علينا أن نسأل أنفسنا ونسأل الإدارة الأمريكية نفسها هي الأخرى، هل حققت بشنها حربا مفتوحة ضد ما تسميه الإرهاب الأمن للعالم أم ضاعفت من انعدامه..؟
الحقيقة الماثلة أمامنا وبعد ثلاثة عقود شنت فيها هذه الإدارة حروبا وجيشت كل قوتها السياسية والاقتصادية لدعم هجماتها العسكرية، وضغطت على العديد من دول العالم لكي تسايرها في توجهها للحرب على الإرهاب دون وجود لحلول سياسية وعقلانية موازية على الأقل، هي أن العالم بات يعاني أكثر من قلة الأمن، فالاندفاعة الأمريكية لـ "تأديب" كل من يتجرأ عليها كما حدث في أيلول (سبتمبر) جعلها تخلط الأمور رأسا على عقب، وتتصور بأن ما سوف يحميها هو قوتها العسكرية وحدها دون وجود لعقل يعرف كيف يحقق أهدافه دون استثارة الآخرين عليها. وجرت العالم معها لحرب مع عدو خفي لا يعرف متى يظهر ولا أين؟
كانت بداية انزلاق الولايات المتحدة صوب حرب كانت تظل بأن القوة العسكرية المدمرة سوف تحسمها بسرعة بشكل نهائي هي بعيد تلك الأحداث المروعة في نيويورك وواشنطن، فعمليات أيلول (سبتمبر) عام 2001، لم تسقط برجي التجارة العالمي وهما رمز القوة الأمريكية المالية والاقتصادية.. ولم تصب مبنى البنتاجون، رمز القوة العسكرية لها فقط، بل يبدو أنها طيرت أبراج العقل الأمريكي من مكانه، ودفعت بواشنطن لشن حروب كانت تعتقد أن حسمها سهل ولا يحتاج لوقت طويل، إلا أن الأيام أثبتت أن حساباتها كانت خاطئة، فها هي تغرق مع حلفائها في رمال أفغانستان المتحركة، وتخوض في الوحل العراقي بلا أفق انتصار محتمل غير الانسحاب غير المشرف والخطر عليها وعلى المنطقة برمتها.
نعم إن العالم اليوم لم يعد أكثر أمنا مما كان عليه قبل اندفاعة واشنطن تحت وهم القوة وحدها، وبفكر إدارة محافظين جدد تسربله عقائد لا تصلح للتعامل مع العصر الحالي، الذي تغير، لقد أعادت سياسة هؤلاء المحافظين الجدد العالم لعصر الغاب وقانونه الوحيد وهو العنف في غياب أسس التحضر الحقيقي، وقادته في منزلق صعب وخطير معا، لم تنجح سياسة القوة الأمريكية في محاصرة الإرهاب بقدر ما استثارته أكثر وأوجدت له المبررات اللازمة، حتى بات الإرهاب فكرا قبل أن يكون فعلا، وأخطر ما فيه أنه اندمج مع عقائد دينية كونت دوافع لتجنيد كل من شعر بالمهانة من هذه الهجمة الأمريكية العسكرية التي خلقت بؤر توتر بادعاءات تكشفت حقائقها بأنها زيفت وقائع لم يكن لها وجود. وأكبر مثال على ذلك احتلال وغزو العراق الذي حول الحلم الوردي بإرساء ديمقراطية تكون مثالا لشعوب العالم، إلى درس قاس تسعى ككل الشعوب للهروب منه، لقد كان خطأ الولايات المتحدة الأكبر أنها أرادت فرض رؤيتها بالقوة المسلحة والعنف الكاسح، وليس بالمثال الإنساني وأدواته العلم والحضارة والثقافة السهلة الهضم. فالقوة وحدها مهما كانت محقة لا يمكن أن تقود لأمن وسلام، بل تورث الأحقاد وتزيد من الضغائن وتستدعي مفاهيم خاطئة للتعامل مع الثقافات الأخرى. فالبسطار العسكري الأمريكي لم يأت لأفغانستان والعراق لتقديم نموذجا يمكن أن يحتذى، فالاحتلال بشع حتى ولو كان بغرض تحرير الشعوب من أنظمة ديكتاتورية. فها هو العراق يتحسر على أمنه المفقود ووحدته التي مزقت حتى ولو كانت في ظل نظام ظالم ديكتاتوري بشع، فما جلبه الاحتلال للعراق لم يكن الحرية الإيجابية، بل الحرية السلبية، حرية الفوضى والقتل والتهجير القسري وإثارة الفتن بين أبناء الشعب الواحد.
إن العالم اليوم أمام مفترق طرق حاسمة، فإما الانزلاق أكثر فأكثر صوب توترات متصاعدة وتنامي ظاهرة إرهاب تتوالد ولا تتقلص، وإما العودة إلى منطق العقل ومعالجة بؤر التوتر الذي تغذيه يوما بعد يوم كما في فلسطين وغيره، وقد آن الأوان لأن يتدخل عقلاء العالم لإعادة التوازن ما بين نجاعة العقل وقوة السلاح. فالعالم اليوم بات في أمسّ الحاجة لإرساء مفاهيم جديدة للعدالة ونبذ المعايير المزدوجة في التعامل مع قضايا الشعوب المقهورة والمظلومة، وهي قضايا تمس شعوبا ذات مكونات أصيلة وتاريخية وحقوق لا تلغيها قوة الاغتصاب والاحتلال والاستعمار الإقصائي لها، فقد باتت هناك حاجة ملحة اليوم لأن تعيد قوى العالم الفاعلة النظر في هذا القانون الدولي الذي غيب عن دوره الحقيقي في حماية الحقوق ومنع التعدي وإرساء علاقات إنسانية لا ظلم فيها ولا جور.
إن لم يفعل العالم ذلك اليوم، فسوف يزداد انزلاقه صوب أتون حروب أكثر خطورة وحروب سوف تقود إلى صراع حضارات وأديان وثقافات إذا ما حاولت إحداهما فرض مفاهيم على بقية الشعوب، وإن ادعت دعاوى في ظاهرها حق وباطنها باطل. أما الانجرار خلف هذه السياسة التي تؤجج الصراعات ولا تحلها، فلن يجني العالم من ورائها إلا مزيدا من التوتر الذي لن تحمد عقباه.
العالم لم يعد أكثر أمنا كما وعدت الولايات المتحدة. وهذه حقيقة يعيشها العالم اليوم، والمسؤولية تتحملها واشنطن بسياستها المنفعلة المندفعة بالشعور بالقوى الغاشمة، وكذلك على الإرهاب بكل صوره الذي لم يعد يفرق ما بين الخطأ والصواب، والعدو وغير العدو.