أمريكا تسيء إلى نفسها إن هي قررت مقاضاة أعضاء (أوبك)!

تلوح الولايات المتحدة الأمريكية منذ فترة غير قصيرة بتبني قانون يسمح لها بمقاضاة أعضاء منظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك"، تحت دعوى التحكم في أسعار النفط، والإضرار بمصالح الدول المستوردة له، وقد بدأ هذا التلويح عام 1981 عندما أقيمت أول دعوى في ظل قانون مكافحة الاحتكار على المنظمة، بيد أن المحكمة التي نظرت الدعوى لم تستطع الاستمرار فيها بسبب الحصانة التي يتمتع بها أعضاء المنظمة كدول، وفي عام 2005 حاول مجلس الشيوخ الأمريكي إسقاط تلك الحصانة التي اصطدمت بها المحاولات الأولى، غير أنه لم يتمكن من تحويل الواقعة إلى قانون، وفي الشهر الماضي أيد معظم أعضاء مجلس النواب اقتراحاً طرح بهذا المعنى، لكنه لم يستطع تحويله إلى قانون للسبب نفسه، لكن محاولة الأسبوع الماضي التي وافق خلالها مجلس الشيوخ على قانون يجيز رفع الحصانة الدبلوماسية عن أعضاء المنظمة لكي يقدموا للمحاكمة مثل أي مجرم أو منتهك للقانون، هذه المحاولة تعد آخر المحاولات وأشرسها وأكثرها حظوظاً في النجاح، رغم تلويح الرئيس الأمريكي بأنه ضد هذا القانون، وأنه ربما يستعمل حقه في رفضه، .. وهو بهذا ربما يريد أن يظهر أن أمريكا كدولة لا يمنعها شيء، إن هي أرادت، من ملاحقة أي دولة، ولن تعدم الوسيلة والحجة، حتى وإن أدى الأمر إلى احتلال الدول، تحت ذرائع كاذبة، كما فعلت في العراق وغيرها!..، ضمن سياسة التخويف التي امتطتها، وما لبثت أن انقلبت عليها وعانت منها، أو أنه يريد أن يظهر، لدول المنظمة، بوقوفه ضد ذلك القانون، ظاهريا، تعاطفه معها، وهو يرمي إلى كسب تأييدها لموافقه السياسية الأخرى..!
على أي حال، هناك معارضة ضد هذا التوجه من بعض الساسة في الولايات المتحدة ذاتها، الذين يدركون حقائق الأمور، ويحسون العواقب، ويتوقعون ردود الفعل التي يمكن أن تحدث كصدى مباشر لقرار كهذا، غير أن الأمر بيد الأكثرية، ومن يملكون مراكز النفوذ وحق التوقيع على القرارات، وعلى منظمة الأوبك أن تأخذ الأمر مأخذ الجد، وتنظر إليه على أنه أمر واقع أو سيقع في ضوء التوجهات ذات الطابع المحير للسياسة الأمريكية..!
إن السياسة الأمريكية تتجاهل الحقائق عندما تمضي في أمر كهذا، وتتنكر للدور الذي لعبته المنظمة منذ إنشائها في تنظيم سياسة النفط، وضبط إنتاجه، والسيطرة على أسعاره، من عدة أوجه نذكر منها ما يلي:
تقنين الإنتاج في بداية الأمر، وجعله متوافقاً مع احتياجات السوق وحجم الاستهلاك، بعيداً عن التقلبات المفاجئة في الأسعار والإنتاج، ولولا ذلك لتوسعت معظم الدول المستوردة في الاستهلاك بلا حدود، ولواجهت حكوماتها أزمة في ملاحقة تمويل الطلب على الاستهلاك، على حساب أوجه تنموية أخرى.. ويحسب للمنظمة الفضل في وضع الاستهلاك العالمي تحت السيطرة لعقود طويلة..
الدور الذي كانت تلعبه بعض الدول في حفظ التوازن في الإنتاج كلما قل المعروض منه في السوق، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية التي تبنت دور المنتج المرجح، وأخذت على عاتقها مسؤولية حفظ التوازن بين العرض والطلب، رغم ما كان يمثله ذلك أحياناً من تذبذب في مداخيلها المعتمدة أساساً على النفط، وذلك على حساب تراجع تمويل خططها التنموية المعتمدة أساسا على النفط، في بعض الفترات، واضطرارها إلى الاستدانة بأرقام تتجاوز المعدلات المتعارف عليها، وذلك رغم امتلاكها ربع الاحتياطي العالمي من النفط، والذي كان يكفي لإبقائها بمنأى عن وطأة الديون الثقيلة.
تجاوب المنظمة، قبل بضع سنوات، مع الأزمة التي أحدثتها الظروف المشتعلة في الشرق الأوسط، في بعض إمدادات النفط، بسبب الحروب التي أشعلتها السياسة الأمريكية، وتوقفت بسببها أو انخفضت إمدادات بعض الدول كإيران والعراق، والكويت بسبب الحرب، وذلك بإلغائها نظام الحصص أو تجميده مؤقتا، وقيامها بحث القادرين من أعضائها على استغلال القدرة الإنتاجية القصوى لديهم للحيلولة دون تفاقم الأزمة وتسببها في الإضرار بالدول المستهلكة وعلى رأسها الولايات المتحدة.
قيام المملكة العربية السعودية، وهي تقود الدول المصدرة، بإنفاق الأموال الطائلة لتوسيع قدرتها وطاقتها الإنتاجية لكي تبلغ أثني عشر مليون برميل يوميا، وهي تعلم، وأمريكا قبلها تعلم، أن القدرة الإنتاجية التي كانت تمتلكها، والمقدرة بتسعة ملايين برميل، كانت كافية لمقابلة احتياجها من الدخل، غير أن رغبتها في الاستمرار بتقديم التضحية، والتزام نهج الاعتدال، ومراعاة وضع الدول المستهلكة هو الذي دفعها إلى ذلك.
إن منظمة الأوبك كانت تنافح لكبح جماح الأسعار، وإنها إلى وقت قريب، قبل إشعال مناطق الإنتاج بالحروب، لم تكن تريد للأسعار أن تبلغ ما بلغته، عندما حددت لها سقفا لا يتعدى 28 دولارا للبرميل .. غير أن ما استجد من الحاجة إلى تمويل الحروب، وما يترتب عليها من تبعات تمويل صفقات التسليح التي تتزعمها أمريكا ذاتها، قد قوّض أركان الاتفاقات السعرية وطوّح بها، ومن غير المستبعد أن تتصاعد الأسعار إذا استمرت السياسة الأمريكية في قهر الشعوب.
أما إذا استمرت أمريكا في توجهها لمقاضاة دول المنظمة، فهناك الكثير من العقلاء لا يكترثون لذلك، وهم يستحضرون الأمثلة السائرة مثل (رب ضارة نافعة) و(على نفسها جنت براقش)، ويتفاءلون بأن الوضع ربما يكون أفضل للدول المصدرة من حيث:
أن بإمكانها إقامة دعاوى مضادة في بلدانها مثل ما تفعل أمريكا، والحصول على أحكام لصالحها.
وقف إنتاج النفط، أو خفضه بشكل يؤثر في حجم الصادرات، كردة فعل من قبل بعض الدول، ولا سيما التي تتصادم مع أمريكا في سياستها النفطية وغيرها، وتبحث عن أسباب تبرر بها مثل هذا التصرف، مثل إيران وفنزويلا.
ارتفاع الأسعار إلى حد لا يخطر على البال، نتيجة الفارق الكبير بين الطلب والعرض، والذي سيتضرر منه أكثر اقتصاد الدول الغربية عموما، وأمريكا على وجه الخصوص.
والخلاصة: أن السياسة النفطية الأمريكية قائمة أكثر على تعبئة الرأي العام داخل أمريكا ضد الدول المصدرة، وتضليله بإيحاءات مفادها أن سبب معاناة المواطن هناك هي الدول المصدرة، وأن الدولارات الثلاثة التي يدفعها للجالون من البنزين تذهب إلى تلك الدول، (وأنه في حين تتمتع دول أوبك بثرواتها فإن المستهلك الأمريكي العادي يعاني كل يوم يتوجه فيه إلى محطة بنزين أو يدفع تكاليف تدفئة منزله)، وذلك وفق ما عبر عنه السيناتور (هيرب كول)، وكأنه يحسد دول المنظمة على الانتفاع بما تملك .. في حين أننا لو دققنا الحساب لوجدنا أن خزائن الدول الغربية تنتفع من النفط أكثر مما تنتفع الدول المصدرة عن طريق الضرائب المتصاعدة التي تفرضها على جالون البنزين قبل أن يصل إلى المستهلك. والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي