Author

حالة من الانتحار الجماعي البطيء نتيجة تلوث البيئة

|
وافق يوم الثلاثاء 19 جمادى الأولى 1428 هـ الماضي للخامس من حزيران (يونيو) 2007م، ذكرى اليوم العالمي للبيئة، حيث يحتفل العالم في هذا اليوم من كل عام بالبيئة, فيتم توجيه أنظار الدول والشعوب إلى أهمية قضية حماية البيئة وخطورة تلوثها على حياة الإنسان ورفاهيته. وقد اهتم رجال الدين والطبيعة والقانون والسياسة والاقتصاد في كل الدول بدراسة البيئة وكيفية حمايتها من التلوث، بحيث أصبح الحق في بيئة نظيفة هو أحد الحقوق الأساسية للإنسان، الذي ينبغي تمكينه من ممارسته والتمتع به، وطلب حمايته والدفاع عنه ضد كل من يسعى إلى الانتقاص منه أو الإخلال به. وبذلت الدول والمنظمات الدولية جهوداً وما زالت من أجل مكافحة التلوث البيئي بكل أبعاده، حيث أثمرت تلك الجهود فـي التوصل إلى إعلانات عالمية منها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فـي 10 كانون الأول (ديسمبر) 1948، وتوقيع عدد من الاتفاقيات الدولية والمؤتمرات فـي هذا المجال. ومما يذكر في هذا الصدد للتذكير بحماية البيئة أن الشريعة الإسلامية قد سبقت القوانين الوضعية في حث الإنسان على حماية البيئة ومنع التلوث باعتباره جرماً، إذ يقول تعالى في كتابه الكريم: (ظَهرَ الفَسَادُ فيِ البَرِ وَالبَحرِ بِمَا كَسَبتْ أَيديِ النَاس ليُذِيقَهُم بَعضَ الذيِ عَمِلُوا لَعَلهُم يَرْجِعُون((سورة الروم: الآية 41)، إذ لا يستطيع أحد أن يُنكر أن تلوث البيئة هو الفساد الذي سببه الإنسان للكون الذي يعيش فيه، لأنه طريق لفساد العالم ونقصان الرزق, وكثرة الخوف, وقلة المعاش, وقطع السبيل. وهذا هو حال العالم اليوم، الذي يتجه بخطوات واسعة نحو الهاوية في تدمير البيئة والقضاء عليها من جوانب متعددة، فهناك تزايد مضطرد لعدد السكان، مع ما يُسببه هذا التزايد من طلب مُلِّح على المواد الغذائية، وما يُعانيه العالم من نقص فـي موارد المياه، وما يُنذر به المستقبل من فجوة غذائية، وكثرة إنتاج الطاقة, وما تُسببه من تلوث للبيئة، وانتشار التصنيع على نطاق واسع، هذا فضلاً عن النفايات الذرية الخطيرة. لهذا فكلما أسرف الإنسان فـي فرض سياساته المادية، وكلما سعى إلى زيادة الرفاهية والتقدم فـي مجالات الاختراعات التكنولوجية، كلما ازداد المأزق البيئي ضراوة، مما يؤثر في صحة الإنسان تأثيراً سلبياً، فـيصاب بأمراض وأوبئة جديدة لم تعرفها البشرية من قبل. والحقيقة أن الشريعة الإسلامية قد سبقت القوانين والأنظمة الوضعية والإعلانات والاتفاقيات الدولية فـي مجال تقرير حق الإنسان فـي بيئة نظيفة خالية من التلوث تكفل له حياة كريمة، إذ لم تقرر بعض القوانين الوضعية حق الإنسان فـي البيئة باعتباره حقاً أساسياً إلا منذ ما يقرب من ربع قرن، واكتفت بالنص على اعتبار البيئة ومواردها تراثاً مُشتركاً، وألقت على عاتق الدولة وأجهزتها والأفراد واجب حمايتها وتنميتها. والمتأمل فـي أحكام الشريعة الإسلامية يجد أنها لم تكتف بتقرير هذا الحق للإنسان فقط، بل جعلت حماية البيئة من التلوث واجباً دينياً يرتبط بعبادته وبعلاقته مع ربه، ومن ثم يجعل احترامه له وحرصه على نظافة البيئة أمراً داخلياً مُرتبطاَ بالوازع الديني، وبذلك يكفل الإسلام فاعلية أكثر من الأنظمة الوضعية لحماية البيئة من التلوث، فلا خوف من عقوبات وضعِّية دنيويِّة، بل الخوف من الله سبحانه وتعالى، وتحكيم الضمير الإنساني، وهو أقوى من أي اعتبارات جزائية دنيوية. والحقيقة التي يجب التذكير بها في هذا اليوم أن تلوث البيئة أصبح أحد السمات الأساسية للعصر الحالي، إذ ترتب على الثورة الصناعية واستخدام التقنية المتقدمة أن توصل الإنسان إلى اختراع ما يُدمر به البيئة عن عمد وسبق تخطيط، بحيث أضحى الإنسان بسلوكه عدواَ لنفسه, وعدواَ لإخوانه, وعدواَ لأرضه, وعدواَ لمستقبله ولمستقبل الأجيال المقبلة، فهو يسعى من ناحية للوصول إلى التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يُحقق له الرفاهية والرقي، ولكنه من ناحية أخرى يُشارك في إفساد البيئة، حتى قيل إننا نعيش الآن في ما يُسمى بالمأزق البيئي الذي يتفاقم ويزداد، مما يؤثر في سعادة الإنسان ويزيد من معاناته. فالبيئة يحكمها ما يُسمى بالنظام البيئي، الذي يعني أن كل مساحة من الطبيعة بما تحتويه من كائنات حية (نباتية وحيوانية) وغير حية (كالماء والهواء وأشعة الشمس والتربة) تُشكل وسطاً تعيش فـيه فـي تفاعل مستمر مع بعضها البعض، وعلى نحو فطري متوازن بنسب مُحددة خلقها الله سبحانه وتعالى، مصداقاً لقوله تعالى: "إنْ كلَ شيءٍ خَلقْنَاهُ بِقَدرِ". فإذا اختلت هذه النسب اختل النظام البيئي، ومن ثم نتكلم عن تدهور أو تلوث البيئة أو "المأزق البيئي". ويأتي هذا التلوث نتيجة سعي الأشخاص نحو استغلال موارد وثروات البيئة بطريقة جائرة غير رشيدة، وبث المواد والنفايات السامة التي تُفسد الهواء والماء والتربة والغذاء، لذا تضحى حياة الإنسان وسائر الكائنات الحية مهددة بخطر التدهور والفناء، على نحو يُنذر بقدوم "حالة انتحار جماعي بطيء". ولهذا نرى أن حماية البيئة من التلوث مثلما تعد حقاً للإنسان فإنها تعد التزاما يقع على عاتقه، فالإنسان الذي يلوث البيئة ويترك النفايات وغيرها من الملوثات، يؤثر بذلك في حقوق الآخرين في أن يعيشوا في بيئة نظيفة خالية من تلك الملوثات، وهو بذلك يعتدي على حقوقهم وعلى حقه أيضاً في أن يعيش في بيئة نظيفة. وإذا روعي التوازن بين الحق والالتزام في هذا الصدد فقد يخفف من حدة المأزق البيئي.
إنشرها