السنن في خطب الجمعة (1 من 2)
تحدثت في اللقاء الماضي عن اعتماد الخطيب على عصا، وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد اتخاذه المنبر أنه اعتمد على شيء، فالاعتماد إنما يكون عند الحاجة، فإن احتاج الخطيب إلى اعتماد مثل أن يكون ضعيفا يحتاج أن يعتمد على عصا فيتوجه أنه سنة لأن ذلك يعينه على القيام الذي هو سنة، أما إذا لم تكن هناك حاجة إليها بل لربما أشغلت الخطيب خصوصا من يقرأ من ورقة ففي إحدى يديه العصا والأخرى الخطبة وعند تقليب صفحاتها يرفع العصا أو يسندها أو نحو ذلك، لذا فإن من هذه حاله لا يتوجه القول بأن الاعتماد على العصا في حقه سنة، وكل ما ورد في السنة من الاعتماد على العصا لا يخلو من ضعف.
إن الخطبة عبادة ورد النص بها، فكل إضافة فعلية أو قولية لها يحتاج إلى دليل، وإن مما شاع لدى فئة من الخطباء الالتفات أثناء الخطبة وتحريك اليدين، وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يقصد تلقاء وجهه في الخطبة إذا أقبل عليهم بعد صعوده المنبر، قال ابن المنذر: هذا كالإجماع. وقال النووي: لا يلتفت يمينا ولا شمالا. قال ابن حجر: لأن ذلك بدعة، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات: ويكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يشير بإصبعه إذا دعا، وأما في الاستسقاء فرفع يديه لما استسقى على المنبر أ.هـ.
وأخرج مسلم في صحيحه عن عمارة بن رؤيبة رضي الله عنه أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه فقال عمارة رضي الله عنه "قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله ما يزيد على أن يقول بيده هكذا وأشار بإصبعه المسبحة".
والخطبة عبادة تلقى لكل من حضر فلا يعرض الخطيب عن بعض المأمومين دون بعض، والخطبة لا تتصف بالقصر المخل ولا بالطول الممل، فمن الناس من أول قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنه من فقهه بالقصر المطلق، وهذا قصور في الفهم، فالقصر يكون معتدلا بحيث لا يحصل الممل للمستمعين وتنفر نفوسهم وهذا يقع ممن يطنب في خطبه بكلام إنشائي تغني عنه آية أو حديث أو عبارة يسيرة، فخير الكلام ما قل ودل ولم يطل فيمل، وكلما كانت الخطبة محدودة الموضوع والأهداف كانت أوعى للسامع وأنفع لأنها إذا طالت أضاع آخرها أولها. وقوله - صلى الله عليه وسلم - مئنة من فقهه، أي علامة ودليل على فقهه إذ من استطاع أن يسبك خطبة كاملة وافيه في موضوعها وعناصرها وأهدافها ونتائجها في أقصر عبارة وأوضح بيان فهو دليل على فقهه، وليس الاختصار أو القصر محمودا في كل أحيانه، إذ قد تستدعي الحال الإطالة لمصلحة راجحة، فإذا أطال الخطيب أحيانا لاقتضاء الحال ذلك فإن هذا لا يخرجه عن كونه فقيها وذلك لأن الطول والقصر أمر نسبي، قال ابن القيم: "كان يقصر خطبته أحيانا ويطيلها أحيانا بحسب حاجة الناس، وكانت خطبته العارضة أطول من خطبته الراتبة" أ.هـ، وتكون الثانية أقصر من الأولى كالقراءة في الركعة الثانية أقصر من الأولى.