لِمَ لم نستفد من تجربة "أرامكو السعودية"؟

[email protected]

مع عدد من الزملاء الكتاب في الصحافة السعودية تلقيت دعوة من رئيس شركة أرامكو السعودية وكبير تنفيذييها عبد الله جمعة لزيارة مرافق الشركة في الظهران وحقل الشيبة النفطي في الربع الخالي. ورغم أننا جميعا نمتلك صورة ذهنية إيجابية عن شركة أرامكو السعودية، إلا أن ما شاهدته خلال هذه الزيارة أكد أننا لسنا في حاجة إلى الذهاب إلى سنغافورة أو ماليزيا للاطلاع على تجارب إدارية ناجحة، فهي موجود لدينا، ومن العجيب ألا يؤثر وجودها في كفاءة أداء مؤسساتنا الأخرى التي بقي معظمها عاجزا عن خلق بيئة تشجع على حسن الأداء والإبداع، وتحولت في أحيان كثيرة إلى بيئة عمل محبطة غير منتجة.
فالشعور بالانتماء والولاء الذي بدا واضحا على كل من قابلناه من موظفي الشركة على اختلاف مستوياتهم، لا يمكن أن يكون نتيجة تمتعهم بمميزات مالية مناسبة فقط، ويلزم أن يكون عائدا لنجاح الشركة في خلق بيئة تُقدر الأداء وتكافئ المجد والمثابر. ففي حقل الشيبة الذي يعمل فيه نحو 700 موظف في بقعة معزولة في أعماق الربع الخالي وأقرب موقع حياة لهم هو نقطة عبور البطحاء على الحدود السعودية ـ الإماراتية على بعد 400 كيلو متر، قابلنا موظفين أمضوا هناك ما يزيد على عشر سنوات بعيداً عن أهلهم وذويهم وكل روابطهم الاجتماعية، ولو لم تنجح الشركة في خلق الأجواء المناسبة لهم لما قبلوا بطيب نفس, العمل في مثل هذه الظروف القاسية مهما كانت حوافزهم المادية. فعلاوة على المميزات المالية المرتبطة بالعمل في هذا الموقع، قامت الشركة بتوفير طائرات تنقل العاملين في إجازاتهم الأسبوعية لزيارة عائلاتهم في الظهران دون مقابل، وجعلت الإجازة الأسبوعية في هذا الموقع يومي الجمعة والسبت ليتمكن الموظف في أثنائها من إنهاء معاملاته لدى الإدارات المختلفة أو زيارة مدارس أبنائه ونحو ذلك من أمور شخصية، ووفرت لهم سكنا مريحا متكامل الخدمات مع وسائل استجمام وراحة ووجبات الطعام، ومددت ساعات العمل إلى 12 ساعة يوميا بدلا من ثماني ساعات ما زاد من المميزات المالية التي يحصل عليها العاملون واستهلاك وقت فراغهم الذي لم يكن من السهل إشغاله في هذا المكان المنقطع. لذا فهذا الموقع النائي الذي به واحد من أكبر حقول النفط في العالم، بإنتاج يومي يصل إلى 500 ألف برميل من النفط الخفيف عالي الجودة، أصبح في نظر العديد من موظفي الشركة، رغم ظروفه المناخية والجغرافية القاسية جدا، مكانا مناسبا للعمل والإنجاز.
التدريب قصة نجاح أخرى في شركة أرامكو السعودية، ففي وقت نشتكي فيه جميعاً من تراجع أداء ومستوى مخرجات مؤسساتنا التعليمية، نجد أن برامج إعادة التأهيل ورفع مستوى العاملين التي تنفذها "أرامكو" قد أنتجت عناصر وطنية عالية التأهيل والتدريب مكنت الشركة من تحقيق اعتماد متزايد على مواردنا البشرية في الوقت نفسه الذي حافظت فيه على مستوى أداء متميز على مستوى الصناعة النفطية عالميا، سواء كان ذلك في مجال استخدام التكنولوجيا المتقدمة أو في مستوى الأداء التشغيلي. فشركة أرامكو لم تكتف بالشكوى، كغيرها من الشركات، من عدم مواءمة مخرجات التعليم واعتبرتها فرصة للتنصل من واجبها الوطني ومبررا لمواصلة اعتمادها على العمالة الأجنبية، بل أدركت عوضا عن ذلك أنها أمام تحد كبير يتطلب جهودا مضنية لإعادة تأهيل العمالة المواطنة بما يناسب احتياجاتها، ما جعل نجاحها كمؤسسة تأهيل وتدريب لا يقل عن نجاحها وتميزها كشركة إنتاج نفطي، وتوج هذا النجاح بتكليف المقام السامي الكريم الشركة للقيام بمسؤولية إنشاء جامعة الملك عبد الله للعلوم والتكنولوجيا.
فبرنامج الإعداد الجامعي المخصص لخريجي الثانوية العامة الراغبين في ابتعاثهم من قبل الشركة لمواصلة تعليمهم الجامعي، صنف أخيرا من قبل إحدى الجهات المعتبرة في الولايات المتحدة كأفضل برنامج إعداد جامعي على مستوى العالم خارج الولايات المتحدة، ولعل هذا الإنجاز العلمي الرائع يكبر أكثر في أعيننا إذا ما تذكرنا المستويات المتدنية جدا لتعليمنا الجامعي وإخفاقاته المتواصلة وفق العديد من التصنيفات العالمية. فعلاوة على إجراءات القبول الصارمة والاختبارات الدقيقة المطلوب تجاوزها للالتحاق بهذا البرنامج، ينخرط المقبولون فيه لمدة عام دراسي كامل في برنامج تأهيلي مكثف يشتمل على دراسة اللغة الإنجليزية والعلوم الأساسية كالرياضيات والفيزياء والكيمياء وفق مناهج أقوى الجامعات الأمريكية، وفرصة الابتعاث تتاح فقط لمن يتجاوز هذا البرنامج بنجاح، ما ضمن حسن إعداد الطلاب وتهيئتهم للالتحاق بأفضل الجامعات الأمريكية وساعد على نجاحهم وتفوقهم. وكان من نتيجة هذا التميز أن وصلت نسبة النجاح في برنامج الابتعاث في شركة أرامكو السعودية إلى 96 في المائة، وليس علينا إلا مقارنة هذه النسبة العالية بنسبة النجاح المتدنية جدا لبرنامج الابتعاث الذي تديره وزارة التعليم العالي، حيث إن إغفال الوزارة التام موضوع تأهيل المبتعثين وإعدادهم بصورة مناسبة قبل ابتعاثهم، تسبب في فشل العديد منهم وعودتهم دون استكمال تعليمهم، بل حتى ترحيل العديد منهم من البلدان التي ابتعثوا إليها، بالتالي أضيعت فرصة تاريخية ربما لا تتكرر مستقبلا، كان يمكن أن تؤدي إلى إحداث نقلة نوعية في مستوى تأهيل كفاءاتنا الوطنية، من خلال هذا البرنامج الوطني الطموح, الذي وفرت له الدولة كل الإمكانات المالية التي تضمن نجاحه، إلا أن سوء تنفيذه أفشله.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي