محفظة عنيزة
خلال العشرين عاماً الماضية شهد المجتمع في المملكة تحولاً ملموساً في تركيبة العمل الخيري، إذ اتسعت دائرته لتشمل بناء مرافق وتجهيزات مكلفة لسد ما قد يكون هناك من فجوة في مجال الخدمات الصحية، التعليم، والرعاية الاجتماعية. ولم يقتصر العمل الخيري على إنشاء تلك المرافق وتجهيزها فحسب، بل امتد إلى الإدارة والتشغيل ما يحتم توافر موارد مالية مستقرة تكفل لها البقاء والاستمرار في أداء رسالتها. كل ذلك يدفع إلى البحث عن آليات تمويل مبتكرة عوضاً عن الأسلوب التقليدي لتقديم الصدقات بدفع مبلغ هنا أو هناك الذي أضحى عاجزاً عن مواكبة الأنماط الجديدة من الأعمال الخيرية التي ينشدها المجتمع. أضف إلى ذلك أن ضعف كل من الرقابة والشفافية في التعاملات المعتادة للعطاء أدى إلى إحجام الكثير من القادرين تحت تلك الذريعة.
وكنت قد دعوت في مقال نشرته "الاقتصادية" بتاريخ 5/9/1425هـ إلى الإفادة من الآليات الجديدة، التي يسرها الله سبحانه وتعالى أمام عباده، لتحقيق مقاصد الصدقة الجارية وبعض مصارف الزكاة للإنفاق على العمل الخيري بأحجامه وأشكاله المتعددة. وتأتي السوق المالية في مقدمة تلك الآليات بما تحويه من عشرات الشركات المساهمة ذات المراكز المالية المتينة وهي كيانات اقتصادية لم تكن مألوفة في مجتمعنا من قبل. إذ يمكن لمن يشاء أن يمتلك أسهماً فيها ووقف ريعها لصالح مشروع بعينه، أو مؤسسات وجمعيات خيرية، أو حتى أفراد كصدقة جارية دون أي إرهاق لمستحقيها بدنياً أو نفسياً. ولئلا يلتبس الأمر على البعض فإن المستهدف من وقف تلك الصدقات في أسهم الشركات هو ريعها وليس المتاجرة فيها، أي أن التذبذبات في أسعار تلك الأسهم، وإن كانت حادة، لا تفسد مقاصد الوقف.
واستشهدت فيما دعوت إليه يومئذ بتجربة أحد المحسنين أوقف أسهماً يملكها في الشركة السعودية للصناعات الأساسية "سابك" لصالح إحدى الجمعيات الخيرية كصدقة جارية نظّمها صك صادر من المحكمة الشرعية الكبرى في الرياض. إذ تضاعفت الأرباح السنوية التي تتسلمها الجمعية الخيرية من تلك الأسهم أكثر من أربع مرات منذ وقفها قبل نحو (12) عاماً، وهو دخل يفوق كثيراً ما قد كان يتوقع من إيجارات فيما لو أًنفقت قيمة الأسهم في تاريخ وقفها في شراء عقار.
ثم أعدت الكرّة مرة أخرى في مقال نشرته " الاقتصادية " بتاريخ 3/9/1427هـ بالدعوة إلى تعظيم منافع استخدام السوق المالية كأداة لتحقيق مقاصد الصدقة الجارية عبر عمل مؤسسي تشارك فيه كل من هيئة السوق المالية، مؤسسة النقد العربي السعودي، وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، ووزارة الشؤون الاجتماعية، بدفع المؤسسات المالية لتأسيس صناديق " استثمار " تتولى استقبال صدقات المحسنين لشراء أسهم شركات معينة ووقف ريعها لصالح مستفيدين بعينهم سواء كان ذلك المستفيد مجالاً عاماً من مجالات الخدمات الاجتماعية كالرعاية الصحية، التعليم، أو رعاية المعوقين، أو كان المستفيد مسجداً، جامعة، أو مدرسة. كما أن قائمة المستفيدين يمكن أن تمتد لتشمل أسماء أفراد مُعّرفين مسبقاً من قبل الواقف.
بالطبع هناك حزمة واسعة من الخيارات للتعامل مع السوق المالية لتحقيق مقاصد الوقف. من تلك الخيارات ما أعلنه وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف في منتصف شهر شوال الماضي، عن موافقة مجلس الأوقاف الأعلى على الإسهام بمبلغ (144) مليون ريال في شركة سعودية مساهمة لصناعة البتروكيماويات، وأشار الوزير في تصريحه آنذاك إلى أن " إسهام الأوقاف في مثل هذه المشروعات الاستراتيجية الواعدة يأتي انطلاقا من اهتمام الوزارة وعنايتها بالأوقاف الخيرية ورغبة منها في الاستثمار الأمثل لفائض غلال الأوقاف وتنميتها .. وإن الوزارة جادة في المضي قدماً نحو تطوير مناشطها في مجال الأوقاف لما فيه من إحياء لسنة من سنن الإسلام".
ومن تلك الخيارات أيضاً ما أعلنته "جمعية عنيزة للتنمية والخدمات الإنسانية" عن عزمها فتح محفظة في سوق الأسهم السعودي كإحدى وسائل زيادة الموارد المالية للجمعية كما جاء على لسان رئيس مجلس إدارتها (الاقتصادية 17/3/1428هـ). وقد تضمن الخبر أن المحفظة ستقوم على تبرعات المستثمرين في سوق الأسهم، وذلك بالتنازل عن أسهمهم لصالح محفظة الجمعية التي سيوضع عليها قيد بالاتفاق مع هيئة السوق المالية لا يسمح بتداول محتوياتها، ولكن يسمح بتحويل ريعها فقط لأنشطة الجمعية.
إن "محفظة عنيزة"، بعد إقرارها من الهيئة، ستفتح بإذن الله باباً واسعاً أمام الكثير من المحسنين للتقرب إلى المولى عز وجل بصدقة جارية تدفع عنهم البلاء في حياتهم وتنفعهم بعد مماتهم. إذ تتميز هذه الآلية من الإنفاق في العمل الخيري أن الريع يصل المستفيد وافياً كاملاً دون عناء وهي أمنية لكل من أوقف مالاً. ليس هذا فحسب، بل إن إجراءات متابعة وتدقيق الصدقات ومصارفها ستكون أكثر انضباطا وشفافية إذ ستعمل تلك المحفظة تحت سمع وبصر جهات رقابة متعددة، ما يدرأ ما قد يكون هناك من شبهات قد طالت بعض الأعمال الخيرية في السنوات الأخيرة. والجميل في هذه الآلية للعطاء والإنفاق لمساعدة الآخرين إنها ميّسرة ومتاحة للجميع كل على مقدرته وسعته مهما كانت محدودة. فإن شاء أوقف سهماً واحداً أو بضعة آلاف، والجميع مأجورون بإذن الله.
ومن باب تعميم الفائدة، فإنني أتمنى على القائمين على "جمعية عنيزة للتنمية والخدمات الإنسانية" توثيق خطوات وإجراءات فتح المحفظة الاستثمارية وإدارتها ومن ثم تزويد جميع الجمعيات الخيرية الأخرى في المملكة بنسخة منها لمساعدتهم في تأسيس محافظ مشابهة، وبهذا تكون جمعية عنيزة قد كسبت أجراً لقاء عملها كما سينالها نصيب من أجر الآخرين. إنها فرصة للمساهمة في نشر ثقافة العطاء في أرجاء الوطن.