نتائج مثيرة عن الطبقة الوسطى في مجتمعنا!
على هامش منتدى جدة الاقتصادي، تلقيت دعوة من مؤسسة ماكينزي للاستماع للمحاضرة التي عرض خلالها الدكتور جيمس زغبي نتائج الدراسة التي أعدها بالتعاون مع هذه المؤسسة عن وضع الطبقة الوسطى في السعودية والإمارات والبحرين.
الدراسات حول هذه الطبقة شحيحة أو غير دقيقة، ولمعرفة حقيقة وضع هذه الطبقة ودورها في المجتمع كان لا بد من إجراء دراسة علمية تطبيقية. وهذا ما حاول الدكتور زغبي القيام به. تم استقصاء آراء عينة مكونة من 2400 شخص في كل من السعودية والإمارات والبحرين، في الفترة بين أيلول (سبتمبر) وتشرين الأول (أكتوبر) من عام 2006، وهي الفترة التالية لانهيار سوق الأسهم!
وقد ذكر الدكتور زغبي أن دراسته هي جزء من جهد سيستمر لمراقبة وضع هذه الطبقة والتغيرات التي ستطرأ عليها! وهذا يبين كيف يراقب الآخرون أوضاعنا الاقتصادية والتغيرات التي تطرأ عليها بطرق علمية، بينما نحن غارقون في سبات عميق عن مثل هذا النوع من الدراسات بالغة الأهمية لاستقرار المجتمع، وللاعتماد عليها كمرجع عند التخطيط للسياسات الاقتصادية الحصيفة. فالمختصون ينظرون للطبقة الوسطى في أي مجتمع على أنها مصدر مهم لاستقراره ونموه، فالمنتمون لهذه الطبقة لديهم قدرة أفضل على فهم المستقبل، وهم يعملون غالبا بجدية أكثر من أجل تحقيق أحلامهم، ومنهم تبرز الشخصيات التي تملك روح الإقدام والالتزام في العمل.
أظهرت النتائج الأولية لهذه الدراسة مؤشرات إيجابية عن هذه الطبقة ومستقبلها، وفقا لنظرة المستقصيين لأنفسهم وتقديرهم لمستقبلهم خاصة في السعودية والإمارات.
فثلثا من تم استقصاؤهم يعتقدون أنهم ينتمون فعلا للطبقة الوسطى لكن الخبرة تبين أن الناس يميلون لتضخيم المستوى الذي ينتمون إليه إذا تـُركِوا لتقدير مستواهم بأنفسهم.
كانت نتائج هذه الدراسة غريبة ومثيرة وتدعو للتأمل ولمزيد من الفحص عن مدى تعبيرها عن الواقع المشاهد والمحسوس، خاصة أنها أجريت في الفترة التي تلت الانهيار الكبير في مدخرات الناس الذين تورطوا في سوق الأسهم! ولذلك أنا أنقل للقارئ الكريم هذه النتائج كما عرضها الدكتور زغبي.
أظهرت نتائج هذه الدراسة أن 76 في المائة من السعوديين الذين شملهم الاستقصاء يشعرون بالأمان والرضا في وظائفهم. وعبر 64 في المائة منهم أن رواتبهم مناسبة لمؤهلاتهم. وقال 70 في المائة منهم أنهم يتمتعون بالتقدير الاجتماعي المستمد من وظائفهم. في حين رأى 50 في المائة منهم أن لديهم وقتا كافيا لممارسة أنشطتهم الترفيهية. وأبدى 83 في المائة منهم رضاءهم عن النظام التعليمي ونظام الرعاية الصحية في بلدهم!
أما أكثر هذه النتائج غرابة فهي تلك التي عبر فيها 62 في المائة ممن شملهم الاستطلاع عن أنهم في وضع أفضل مما كانوا عليه قبل أربع سنوات! بل ويعتقد 65 في المائة منهم أنهم سيكونون في وضع أفضل بعد أربع سنوات! يمكن أن تكون بعض هذه النتائج متأثرة بتوقعات الناس الإيجابية للأثر الذي ستحدثه برامج التنمية المستندة على عوائد النفط العالية التي دخلت الخزانة العامة. وعلى الرغم من هذا التفاؤل، إلا أن البعض عبروا فعلا عن قلقهم حول مستقبل استقرار المنطقة في ظل عدم الاستقرار الأمني والسياسي في المنطقة.
وعند المقارنة بين الدول الخليجية الثلاث (السعودية والإمارات والبحرين)، كانت نتائج الاستقصاء أكثر إيجابية بشكل عام بين الإماراتيين منها عند السعوديين، وأقلها عند البحرينيين. كما كان الإماراتيون أكثر ثقة من غيرهم في أن العمل الجاد والطموح هما العاملان الحاسمان في تحسن أوضاعهم المهنية، أكثر من عوامل الواسطة أو الوضع الطبقي. لكن السعوديين كانوا الأكثر ثقة في وضعهم المالي. ومع ذلك فإن الدراسة تظهر أن الثغرة ما زالت كبيرة بين الطبقتين الوسطى والدنيا في كل الدول الثلاث، فيما يتعلق بالدخل والأمان والرضا الوظيفي، مما يدعو للقلق ويستدعي اهتماما بالغا. ومن الواضح أن هذه النتائج قابلة للتغير مع الزمن كما هو الحال في مثل هذه الدراسات. إلا أنها لم توضح بعد إن كانت الطبقة الوسطى تنمو أم تتقهقر، وهل درجة الثقة والرضا في ازدياد أم تراجع. ولا شك أن الإجابة على مثل هذه الأسئلة هي التي ستمدنا بمؤشرات عن مدى صحة اقتصادنا وعافيته.
أما أجمل ما كان في هذا اللقاء، فهي المصادفة التي جمعتني بالأمير تركي الفيصل، سفيرنا السابق في الولايات المتحدة، الذي حضر هذا اللقاء على غير سابق علم منا بحضوره. وقد رغب الحضور أن يحدثهم، بعد نهاية العرض، عن تجربته واتصالاته وجهوده التي قام بها أثناء عمله سفيرا لبلادنا في أمريكا. ومن يعرف المجتمع الأمريكي بكل تعقيدات مؤسساته السياسية والإعلامية والثقافية، ويتصور مدى سيطرة القوى الصهيونية (شديدة المناوأة لبلادنا) على الحياة الأمريكية، يدرك مدى الجهد المضني الذي بذله في فترة من أصعب الفترات التي وصلت إليها العلاقات السعودية ـ الأمريكية.
كنت أستمع إليه بانتباه شديد، وقد وقف يتحدث بإسهاب عن هذه التجربة وبجانبه جيمس زغبي في إحدى قاعات الطعام الصغيرة في فندق هيلتون جدة. تحدث الأمير تركي الفيصل باستفاضة وشفافية وبلغة إنجليزية طلقة مسترسلة مقنعة تحيطه هالة وهاجة من الصفات الفيصلية التي اكتسبها من والده العظيم. كانت ترتسم على عينيه ووجناته صور الحياء والتواضع الجم الممزوج ببريق الذكاء الوقاد، الذي يدفعك دفعا للتعلق بهذه الشخصية "الكاريزمية" الجذابة ومحبتها واحترامها العميق، وهي خصال طالما عرفها الناس عن هذا الفرع الطيب. رحم الله الفيصل.. كنت أتابع حديثه وأنا أتمنى ألا تطرف لي عين، بينما يهاتفني بين الحين والآخر هاتف يقول: إذا لم تكن الإمارة في مثل هذا الطراز من الرجال، ففيمن عساها تكون؟ أتمنى ألا تفقد الدبلوماسية السعودية جهوده في أي موقع كان.