26 فبراير 2006 في ذاكرة المستثمرين
تتذكر إنجلترا 26 شباط (فبراير) 1797 أنه اليوم الذي أصدرت فيه أول عملة ورقية في العالم، تمثلت في الجنيه! وتتذكر فرنسا التاريخ نفسه من عام 1815 أنه اليوم الذي هرب فيه نابليون بونابرت من منفاه في جزيرة ألبا! وسنتذكر نحن السعوديين في التاريخ ذاته من عام 2006 أنه اليوم الذي شهد ضُحاه الانهيار الأكبر في سوق الأسهم، والذي شهد تحطّم سور الحوض المالي العملاق بـ 3.1 تريليون ريال! ليفقد في أقل من عام 2.1 تريليون ريال، أي خسارة 68 في المائة من استثمارات 3.6 مليون مستثمر! لستُ كمن ينظر إلى القضية المالية والاقتصادية الأكثر "ضجّة" في تاريخنا المعاصر من منظورها الزمني فحسب بحكم أنها أكملت عاماً كاملاً! فتلك مهمة أهل التاريخ. إنها في المنظور الاقتصادي والمالي "أزمة" بكل ما تحمله تلك العبارة من مفاهيم، إنها كذلك وإن ادّعى من ادّعى أنها خلاف ذلك. إنها أزمة حقيقية فاقت بخسائرها القاسية حتى ما لحق بالأسواق الآسيوية في 1997، التي تراوحت كوارثها المالية آنذاك بين -55 في المائة في Thailand SE و -21 في المائة في Singapore Exchange، فما بالنا ونحن بصدد الحديث عن انهيار فاق -66.5 في المائة من قيمة المؤشر العام للسوق؟! بل، ما بالنا إذا تأكدت لنا حقيقة أنها الخسارة الأكبر في أقل من عامٍ على مستوى 62 سوقا مالية حول العالم خلال الفترة 1991- 2006.
يجب أن نتجاوز تماماً "سطحية" قياس تلك الأزمة الحقيقية في سوق الأسهم بأرقام الزمن، وأن نذهب بعيداً في أعماق البحث عن الأسباب الفعلية وراء ما حدث! تلك مهمة الاقتصاديون فقط الأولى الآن، مع احترامي لمحللي القمم والقيعان والمفردات "الفنية" كسر واخترق وانبطح! إن الهدف الرئيس من دراسة وبحث تلك الأسباب الكامنة وراء ذلك الانهيار المالي، سيفيدنا كثيراً في العمل على ألا تتكرر مرةً أخرى، كما سيصبُّ في الرصيد المتراكم لتجاربنا الحديثة على المستوى الاقتصادي والمالي، خاصةً مع تسارع التطورات العالمية والإقليمية في هذا المجال. وفي هذا السياق أؤكد أن علينا جميعاً تجاوز "الحساسية المفرطة" تجاه الاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت من قبل هذه الجهة أو تلك! وليست قضيتنا هنا متعلقة بالشجاعة أو عدمها؛ فهذا أمرٌ شخصي ونسبي تختلف درجاته من شخصٍ إلى شخصٍ آخر. إنها قضية أكبر وأعظم من تلك النظرة المحدودة الأفق، إنها بصريح العبارة "مصلحة كبرى للوطن" لا مجال فيها للمجاملة أو المماطلة أو الالتفاف على حقائقها، ومن هنا يجب أن نبدأ وإلى النقطة نفسها يجب أن ننتهي.
نتيجةً للبحث في مقدمات ما حدث قبل يوم 26 شباط (فبراير) 2006 تبلورت لدي مجموعة من المسببات، والتي تطرّقتُ إليها في أكثر من مقال وتقرير، اختصرها في السبع نقاط التالية: "1" تأخّر معالجة الاختلالات الهيكلية الكامنة في جسد السوق منذ تأسيسها، واستفحال خطرها فيما بعد مطلع 2003 تحت ضغط التطورات المتسارعة والمتعاظمة التي مرّت على السوق. "2" التدفّق السريع لملايين المستثمرين محدودي الخبرة ومليارات الريالات على سوقٍٍ صغيرة فقيرة الكفاءة والتطور والعمق. "3" توسع البنوك التجارية غير المدروس في منح التسهيلات المالية الضخمة، بما ضاعف من معدلات المخاطرة في السوق. "4" انعدام الفرص الاستثمارية البديلة في الاقتصاد الوطني، مقابل تلك الوفورات المالية الضخمة. "5" قصور السياسات والإجراءات التنظيمية والإشرافية والرقابية عن المستوى المطلوب للتعامل الكفء مع التطورات المتسارعة في السوق، سمحَ لقوة الطلب الهائلة أن تتغلب بسهولة على المعروض الهزيل من الأسهم المتاحة للتداول، ويكفي أن نستقرئ تأثير ذلك الاختلال من ارتفاع معدلات دوران الأسهم (قيمة، وكمية) قبل تاريخ الانهيار بصورةٍ قياسية، من 88.5 في المائة في نهاية 2002 ليستقر فوق 411.8 في المائة مع نهاية 2005. تلك إشكالية اقتصادية ونقدية بحتة يمكن تفسيرها باختلالٍ ظل نطاقه يتسع طوال الفترة بين قوى العرض التي تقع مسؤوليتها على وزارة المالية، وقوى الطلب التي تقع مسؤوليتها على مؤسسة النقد؛ فأمام شبه الاستقرار في المعروض من الأسهم في السوق ظلّت السيولة المتدفقة إلى السوق المدعومة بتزايد أعداد المستثمرين والسيولة النقدية، إضافةً إلى شحِّ الفرص الاستثمارية البديلة، الذي ساهم بدوره في زيادة تدفق الأموال الضخمة إلى أروقة السوق الضيقة، لترتفع أسعار الأصول في السوق بسرعةٍ مجنونةٍ لم يسبق لها مثيل. "6" ساهمت الأسباب الخمسة السابقة في تهيئة الأجواء للمضاربات الشرسة، التي انحرفت بمسار السوق المالية من داعم للاقتصاد الوطني لتحوله إلى ساحةٍ فوضوية للمضاربات الفاقدة تماماً للرشد. "7" أخيراً؛ انخفاض مستوى التنسيق بين الجهات الرسمية ذات العلاقة، وقد أثبت الانهيار لاحقاً ضعفه التام وانعدم وجود ما يسمّى بإدارة الأزمات حتى في أدنى مستوياتها. الخلاصة: أن نداويها بالتي هي الداء! وأن تُكثّف جهود إصلاح وتطوير سوقنا الواعدة، وأن نتجاوز "بلادة" إدارة التجربة بالصح والخطأ، إلى "مبادرة" الإدارة بمبدأ الأولويات والتخطيط المتعدد البدائل، ودامت سوقنا خضراء اللون!!