منتدى جدة الاقتصادي يكسر "الحاجز النفسي" وينتقل إلى الواقع السعودي
السعودية تعيش تجربة مثيرة في التنوع الفكري من خلال ما يُعرف بـ المنتديات والمؤتمرات المتخصصة في الاقتصاد والاجتماع، معتمدين في ذلك على تجربة الدول الرائدة في تنظيم العديد من الندوات والمؤتمرات والتجمعات الإقليمية والدولية. ولعل تجربة منتدى (دافوس) الشهير أكبر مثال على التعريف السابق.
ويبدو أن الرغبة ملحة من جيل الشباب في اختراق عالم (المنتديات)، مما دفع المخلصين من الجيل الثاني من السعوديين إلى المبادرة لتنظيم مثل هذا الحدث منذ ثمانية أعوام، والفكرة انبثقت حينها من عضو مجلس إدارة غرفة جدة سابقاً، ومحافظ الهيئة العامة للاستثمار الأستاذ عمرو الدباغ، محاولاً بذلك أن يتبنى مشروع الإصلاح الاقتصادي لفكر خادم الحرمين الشرفيين الملك عبد الله بن العزيز منذ أن كان ولي للعهد، والذي استطاع من خلال المنتدى الاقتصادي أن يضع الخطوات والتطورات الجديدة كافة التي يشهدها الوطن، والذي ساهم في تعميق وتكريس توجهات الدولة لدى الرأي العام.
ومن هُنا جاءت تجربة منتدى جدة الاقتصادي، ومن بعده منتدى الطاقة في الرياض، وهما تجمعان يسجل لهما نجاح في تميزهما، بل ويحسب لمنتدى جدة التركيز في بحث قضايا ذات أبعاد دولية مهمة في السنوات الأولى، محاولاً الاستفادة من التجارب العالمية الأخرى لتطبيقها! سبع سنوات، متتالية حملت صورة ذهنية لمنتدى جدة الاقتصادي، أنه تجمع وتواصل بين "النخبة" من السياسيين ورجال الأعمال والمسئولين. هذه الصورة الذهنية كانت مبررة إلى حد كبير، فخلفيتها عناوين ضخمة أولها في عام 2000م (نمو ثابت في اقتصاد عالمي)، و(تنمية موارد الثروة في الاقتصاد القائم على العلم والمعرفة) في عام 2001م، و(الإدارة في بيئة عالمية معقدة) في عام 2002م، و(المنافسة العالمية بمنظور عالمي وتطبيق محلي) في عام 2003م، و(تحقيق نمو اقتصادي متسارع) في عام 2004م.
وعلى الرغم من الجدل الذي أحيط بمنتدى جدة الاقتصادي في أعوامه الماضية، تسبب في (إحراج) منظميه وانتقادهم علناً، بدءا من اختيار عناوين ومحاور (عامة) و(هاجس العالمية) دون المحلية، مروراً بالمشاركة النسائية، حتى إن استثناء المتحدثين الدنماركيين من الحضور والمشاركة أحدث (دوياً) لا بأس به في جو مشحون بـ (المقاطعة)! ولكن في الوقت نفسه، فإن كل تلك التجارب والأحداث ساهمت في حراك اجتماعي واقتصادي وثقافي بين جميع التيارات الوطنية، في تجربة يندر أن يشهد المجتمع السعودي مثلها.
منتدى جدة الاقتصادي بعد رحلة الأعوام السبعة الماضية والثامنة المقبلة، مطالب بالنضوج في الرؤى والتقارب مع الواقع. وواضح أن هاجس (العالمية) كان حاجزاً نفسياً نريد تجاوزه. وسبق أن وصف الاقتصادي والمحلل حسين شبكشي المنتدى بـ (الفاترينة), التي تكتشف أخيراً أنها تجذبك سريعاً، لكنها لن تجعلك تستمر في الشراء، فعلى أرض الواقع، دلت التجربة أن كثيراً من المشاركين انجذبوا لبريق أسماء المتحدثين ومشاهدتهم أو لربما التقاط صور معهم، لتنتهي علاقتهم بالمنتدى وشؤونه بمجرد إغلاق الأبواب.
لذلك أراد الشيخ صالح التركي في السنة الأولى من رئاسته غرفة جدة أن يكون المنتدى أكثر واقعية، ويطمح في أن يستمر المنتدى في دورته الثامنة لهذا العام، في وتيرة تصاعدية بالتفاعل مع المجتمع الوطني ومع القضايا والملفات التي سيطرحها المتحدثون. واختار مجلس إدارة غرفة جدة الأستاذ سامي بحراوي، لكي يقوم بإجراء تغيير (تكتيكي) في أسلوب الجلسات اليومية على عكس ما كان سائداً في تجارب الأعوام الماضية، واستطاع ان يحول أيامه الثلاثة إلى متحدثين رئيسيين ثم إلى حلقات عمل، واختار الإصلاح الاقتصادي ليكون عنوان هذا العام. وجازماً أقول، إن سامي بحراوي، سمع كل الأصوات من مؤيدين ومعارضين، واتخذ خطوات جريئة، فلأول مرة سيصدر المنتدى توصيات، وهو نموذج نراه في منتدى (كران مونتانا), الذي يعقد مرتين، ولا يلقى (الضجيج الإعلامي) نفسه لمنتدى دافوس مثلاً، ولكن (توصياته) يتم تفعيلها ومراجعتها. وهذه التوصيات ربما ستحول أكثر من 30 وصفة اقتصادية إلي شحن ذهني في جو التفاعل الاقتصادي!
السؤال المطروح حالياً، هل تحولت تلك التجارب إلى الواقع السعودي؟ أستطيع القول، ومن خلال مطالعتي أجندة فعاليات المنتدى السابق لعمرو عناني ومنتدى العام الحالي لسامي بحراوي، أن المنتدى بدأ يضع أول أقدامه لأن يستفيد الاقتصاد السعودي بل والمواطن أيضاً من منتدى جدة الاقتصادي، فقد شهد العام الماضي "دسامة" في المشاركة المحلية، وهي إشارة مهمة إلى الاهتمام بالشأن السعودي من خلال مشاركة ثلاثة وزراء بأوراق عمل دفعة واحدة، وهم وزير العمل الدكتور غازي القصيبي، ووزير التجارة والصناعة الدكتور هاشم يماني، ووزير النقل الدكتور جبارة الصريصري، وسوف نرى هذا العام مجموعة من القطاع الخاص السعودي يشارك ويستعرض فكر الإصلاح الاقتصادي.
من جهة أخرى، يجب الإشارة إلى أن نقل التجارب في منتدى جدة الاقتصادي يعتبر مسألة مهمة جداً، في تقديم النموذج العالمي، كتجربة قابلة للتطبيق من خلال تكرار دعوة رموزها! حيث دعا الكاتب الاقتصادي الأستاذ أمين ساعاتي في صحيفة "الاقتصادية" أمس الأول، منظمي منتدى جدة الاقتصادي إلى الاتجاه إلى دول آسيا، للاستفادة من تجربتها في النمو والتنمية الاقتصادية. وما حدث في منتدى جدة من دعوة أصحاب ورواد التجربة الآسيوية أكبر دليل على هذا التوجه ففي التجربة الماليزية جاء مهاتير محمد رئيس الوزراء السابق في الأعوام الأخيرة، وشارك رئيس الوزراء الحالي عبد الله أحمد بدوي، والأمر نفسه ينطبق على سنغافورة.
ويبدو أن تكرار دعوة الماليزيين والسنغافوريين أصبح واضحا هدفه بأنه النموذج الأقرب، بل إن السعوديين معجبون بالتجربتين، كذلك سيكون هناك حضور صيني مميز، للاستفادة من تجربتها في الإصلاح الاقتصادي الذي استطاعت بكين به أن تحقق أعلى نسبة نمو اقتصادي في العالم كله! الأمل كبير جداً في أن يقترب منتدى جدة إلى أرض الواقع السعودي، ليستفيد الجميع منه، ويصبح لدينا تجمع دولي يصب في صالح بلد بأكمله!
ختاماُ ليس المطلوب الآن (القسوة) الإعلامية على أصحاب فكرة منتدى جدة أو منظميه، ولا نريد أن نكون (معول هدم)، فمجلس إدارة غرفة جدة يضم صوته إلى كل الأصوات المخلصة من أبناء الوطن، لأن يتحول المنتدى إلى الأجواء التفاعلية التي تهتم بالمصالح الداخلية وتلتزم بالجوانب الدينية والاجتماعية، ولكن علينا كذلك ان نراعي عادات وتقاليد ضيوف الدولة والمنتدى من مسئولين سياسيين أو اقتصاديين وأن نستفيد من تجارب الآخرين للمصلحة العامة!