هل يمكن الاستغناء عن ديوان المراقبة العامة أو دمجه؟
لفت انتباهي مقال نشر في صحيفة "الرياض" لأحد كتابها بتاريخ 30/12/1427هـ بعنوان "وزارة الرقابة العامة والتحقيق" يقترح من خلاله إنشاء وزارة تسند إليها مسؤولية الرقابة السابقة واللاحقة، والمتابعة والتفتيش والتقييم في شتى الأمور المالية والإدارية والعملية، وفي كافة نشاط ومهمات عموم قطاعات الدولة، وذلك بأن يضم إلى الوزارة المقترحة جميع أجهزة الرقابة المالية، وفي مقدمتها ديوان المراقبة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق، ويعهد إليها مسؤولية الرقابة السابقة واللاحقة في جميع الأمور الإدارية والمالية والصحية والفنية والهندسية والبلدية وغيرها!.
كما لفت انتباهي ما تضمنه مقال آخر لأحد كتاب صحيفة "اليوم" بتاريخ 17/1/1428هـ يقترح فيه دمج ديوان المراقبة العامة، ومعهد الإدارة العامة، تحت اسم "وزارة الأنظمة والمحاسبة"!.
وكنت قبل ذلك قد شاهدت جانبا من برنامج بث على الهواء على قناة "الإخبارية" قبل فترة نوقش من خلاله الدور الذي يؤديه ديوان المراقبة العامة ولفت نظري ابتعاد بعض من استضافهم البرنامج عن الإلمام الكامل بالموقع التنظيمي للديوان كجهاز أعلى للرقابة المستقلة على المال العام ضمن الهيكل التنظيمي للدولة بدليل أن أحدهم اقترح الاستغناء عن الديوان!.
وتأملت كثيرا في الطروحات الثلاثة ومدى قابليتها للتطبيق، أو تحقيقها لأي مصلحة وطنية، من منطلق أن الكاتب أو المثقف حري به أن يتوخى المصلحة العامة فيما يطرحه من أفكار ورؤى ومقترحات وألا يبتعد في طرحه عن الموضوعية، ناهيك عن وجوب الإلمام بكنه الموضوع الذي يتناوله!.
ولما كنت مدينا للديوان ببعض ما أمتلكه من خبرة في الشأن المالي والإداري منذ بدايات حياتي العملية، فقد تأثرت بأسلوب الطرح الذي تم به تناول هذا الموضوع، واستكثرت أن تصل الأمور إلى حد المطالبة بإلغاء الديوان أو دمجه في وزارة أو جهة تنفيذية أخرى، وأشعرني ذلك ببعض الغيرة المشوبة بالإحباط إزاء التجاهل أو الجهل من قبل البعض بوظيفة الديوان، كجهاز مركزي للرقابة على المال العام وحمايته، نشأ مع تأسيس الدولة، ومضى عليه أكثر من ثمانين عاما!.
وقد حملني الوفاء للمصلحة والإيمان بدور الديوان وأهمية إسهامه في صون المال العام، على امتطاء قلمي في محاولة لتوضيح هذا الدور وإبرازه من خلال نظرة محايدة تستهدف ما يتوخاه الكاتب الذي يتحدى الموضوعية فيما يكتب، خاصة أنني لم ألحظ نشر إيضاح أو تعقيب من أحد، يصحح المفاهيم والرؤى ويزيل ما قد علق بإذهان العامة من لبس وغموض!.
فديوان المراقبة العامة ليس جهازا تنفيذيا يؤدي جانبا من الخدمات التي يقوم بها الجهاز التنفيذي للدولة، حتى يمكن إلغاؤه أو دمجه مع جهاز آخر، أو تعديل وضعه، سواء بتحويله إلى وزارة، أو جهة تنفيذية، لأنه جهاز مستقل تماما عن السلطة التنفيذية باعتباره رقيبا عليها، ولا يصح أن يجتمع التنفيذ والرقابة في جهة واحدة!.
وهذا الوضع شبيه بما هو كائن في كافة الدول، إذ لا بد من وجود جهاز مستقل ضمن كيان الدولة وتنظيمها يعهد إليه بمهمة الرقابة المالية العليا على أموال الدولة وميزانيتها، وكافة التصرفات المالية كالصرف والجباية والمشتريات والمشاريع، أما موقع هذا الجهاز في الهرم التنظيمي لكل دولة، فيأتي في أعلى التنظيم، ويرتبط بأعلى سلطة فيها، مثل الملك أو رئيس الجمهورية أو البرلمان، ولا يتبع لرئيس الوزراء لضمان حياده واستقلاله عن الجهات التي يراقبها وهناك من الدول من يجعله في درجة مساوية لرئاسة الوزارة في التنظيم لإبراز أهميته.
وكما ألمحت سابقا، فإن نشأة الرقابة المالية في المملكة تعود إلى البدايات الأولى لتكوين الدولة، أي إلى عام 1345هـ عندما أصدر الملك عبد العزيز أول نظام للحكم والإدارة، واسمه "التعليمات الأساسية للمملكة الحجازية" ونص على إنشاء "ديوان المحاسبات"، ويتكون من رئيس وثلاثة أعضاء يتم تعيينهم بأمر ملكي، من ذوي الخبرة والأهلية والكفاءة في الأمور والمعاملات المالية والمحاسبية وحدد النظام اختصاصات الديوان بالتفتيش على جميع الدوائر الحكومية التي تجبي جانبا من الإيرادات، وإجراء التدقيق والمراقبة على جميع المصروفات العمومية.
ثم بعد ذلك جرى تطوير الديوان وتوسيع اختصاصاته عندما صدر أول نظام لمجلس الوزراء في المملكة عام 1373هـ، ونص على تكوين مراقبة حسابات الدولة للقيام بتدقيق جميع حسابات الدولة، والتحقق من صحة قيود دخلها وخرجها في الوزارات والدوائر والمصالح التي تنفق عليها الدولة، وتتحمل أعباء كل أو جزء من ميزانيتها السنوية المعتمدة، والميزانيات الإضافية التي قد يقرها مجلس الوزراء أثناء السنة، كما صدر عام 1374هـ قرار من مجلس الوزراء بالموافقة على الهيكل التنظيمي لديوان مراقبة حسابات الدولة، ثم صدر أمر ملكي في العام التالي بتعيين أول نائب له وهو السيد محمد حسن فقي!.
أما التطوير الشامل للديوان فقد حمله نظامه المستقل الذي صدر عام 1391هـ وأعاد تحديد وتنظيم اختصاصات الديوان وواجباته، ومنحه استقلالا كاملا في السلطة التي يمارسها، ونص على أنه يختص بالرقابة اللاحقة على جميع إيرادات الدولة ومصروفاتها، وكذلك مراقبة كافة أموال الدولة المنقولة والثابتة، ومراقبة حسن استعمال هذه الأموال واستغلالها، والمحافظة عليها، ويدخل ضمن ذلك التحقق من تحصيل إيرادات الدولة ومستحقاتها وإدخالها الخزانة العامة، وكذا متابعة الأنظمة واللوائح المالية والحسابية والتحقق من تطبيقها وكفايتها، وملاءمتها للتطورات التي تستجد على الإدارة، وتوجيه النظر إلى أوجه النقص في ذلك، وتقديم الاقتراحات اللازمة للتطوير..
فهل يبقى بعد ذلك مجال للقول بإمكانية الاستغناء عن هذا الجهاز، أو دمجه مع غيره، أو شك في أهمية دعمه وتقويته خاصة في الظروف القائمة، التي تتضخم فيها ميزانية الدولة سنة بعد أخرى، وتزخر بالمزيد من المشاريع، وتقل فيها درجة الانضباط في الإنفاق!.
على أن اسم الديوان هو "ديوان المراقبة العامة" قد يذهب بتفكير البعض إلى أن مهمته ليست مقصورة على الرقابة المالية، وقد يكون هذا هو ما أوجد بعض اللبس لدى من تناول الموضوع، فاختلطت لديهم الأمور، وتشابهت المسميات ..، ولهذا السبب فقد يكون التفكير في تغيير المسمى واردا، وأعد القارئ بأن يكون هذا هو أحد محاور حديثي في الأسبوع القادم.
والله من راء القصد