مواجهة الإرهاب بين موجتيه الأولى والثانية

كانت مصر والجزائر في مقدمة الدول العربية والشرق أوسطية التي عانت الموجة الأولى من الإرهاب الدموي المحلي المستند إلى الأفكار الإسلامية المتطرفة في العقدين الأخيرين من القرن الماضي. وقد اتسعت المعاناة من تلك الظاهرة المقيتة خلال السنوات الخمس السابقة لتشمل عدداً كبيراً من الدول العربية والشرق أوسطية فضلاً عن دول أخرى في العالم مع نشوء الموجة الجديدة الحالية من الإرهاب والعنف المتسمين بطابع دولي متجاوز للحدود. وقد كلفت الموجتان الأولى والثانية هذه البلدان جميعها آلافاً من الضحايا الأبرياء الذين سقطوا بين قتلى وجرحى بالإضافة إلى خسائر اقتصادية ومالية فادحة وتهديد جدي لاستقرارها السياسي والاجتماعي.
ومن بين تلك البلدان التي عرفت خلال تلك السنوات الصعبة لموجة الإرهاب الأولى المحلية خبرات نوعية مهمة أوصلت في النهاية إلى توقف هذه الموجة فيها، كانت مصر التي اكتسبت ثلاث خبرات رئيسية مهمة يمكن أخذها في الاعتبار عند مواجهة تلك الظاهرة في مجتمعات أخرى أو على الصعيد العالمي كله. أولى تلك الخبرات هي الاستراتيجية المركبة التي اتبعتها الدولة والمجتمع في مصر لمواجهة الإرهاب في توجهه المحلي، والتي أدت في النهاية بالتفاعل مع عوامل أخرى إلى إنهاء موجة الإرهاب الواسعة والخطيرة التي ضربتها خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. فقد تضمنت تلك الاستراتيجية مستويات وأدوات أمنية وأخرى إعلامية وثالثة اقتصادية – اجتماعية ورابعة سياسية، نتج عن تفاعلها مجتمعة في النهاية توقف تلك الموجة الإرهابية في وادي النيل حيث يعيش أكثر من 99% من السكان منذ عشر سنوات. وعندما اندلع الإرهاب في مصر مرة أخرى خلال موجته الجديدة الدولية، لم يقترب من ذلك الوادي بل ضرب مرات ثلاث قاسية في أقصى أطراف البلاد الشرقية في شبه جزيرة سيناء.
وتتمثل الخبرة الثانية التي عرفتها مصر في التحول التام والنهائي الذي قامت به الجماعتان الإسلاميتان اللتان مارستا الإرهاب في تلك الفترة انطلاقا من قراءة خاطئة متطرفة لتعاليم الدين الإسلامي، وهما الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد، عن تلك القراءة والعودة إلى مفاهيم الوسطية والممارسة السلمية التي تمثل الجوهر الحقيقي للإسلام. وقد شجعت الدولة من خلال الاستراتيجية المركبة المشار إليها هذا التحول منذ بدايته وساعدت قيادات وأعضاء الجماعتين، وبخاصة الجماعة الإسلامية الأكبر عدداً والأكثر انتشاراً، على بلورته واستكماله ونشر الأفكار الجديدة في كتب عديدة، مما أدى في النهاية إلى تأكيد التحول والإفراج عن الغالبية الساحقة من قياداتها وأعضائها الذين كانوا محتجزين في السجون المصرية. وتمثلت الخبرة المصرية الثالثة في التوقع المبكر بامتداد خطر الإرهاب إلى مناطق واسعة من العالم وعدم اقتصاره على البلدان والمجتمعات المسلمة، والذي عبرت عنه دعوة الرئيس حسني مبارك المجتمع الدولي منذ عام 1986 إلى ضرورة عقد مؤتمر دولي لمواجهة تلك الظاهرة بدءاً من وضع تعريف متفق عليه لها مروراً بوضع استراتيجيات مختلفة لمواجهتها على كل الأصعدة وانتهاءً بتبادل الخبرات بين دول العالم في تلك المواجهة.
هذه الخبرات المصرية الثلاث في مواجهة الموجة الأولى من الإرهاب يمكن أن تساعد في وضع أسس لمواجهة الموجة الثانية الحالية مع إضافة عناصر أخرى تستلزمها طبيعة تلك الموجة ذات التوجه العالمي. ولعل أهم وأبرز تلك العناصر الجديدة للمواجهة يأتي من تلك الحقيقة التي أشار إليها كثير من الإحصائيات والدراسات المتخصصة من ارتباط بين تزايد واتساع الظاهرة الإرهابية على المستوى العالمي خلال الأعوام الخمسة الأخيرة وبين الصراعات والحروب والقضايا السياسية الكبيرة المعلقة في العالم العربي والإسلامي، وفي مقدمتها الحرب في العراق وأفغانستان ولبنان والقضية الفلسطينية. وفي هذا السياق بدا واضحاً أن ما سببته الحروب والصراعات الكبيرة لشعوب ودول المناطق التي نشبت فيها من خسائر وصلت إلى مستويات خطيرة فاقت بكثير ما سببته موجة الإرهاب الجديدة، بحيث باتت تهدد الاستقرار والأمن فيها وفي المناطق المحيطة بها بل وفي العالم كله، فضلاً عن أنها أضحت تمثل الأرض الخصبة التي راحت ظاهرة الإرهاب الأعمى تنمو فيها ويزداد اتساعها وحجمها.
من هنا فإن أي مواجهة جادة لتلك الموجة الجديدة ذات الطابع العالمي تتطلب سعياً دولياً مشتركاً نحو إيجاد حلول سلمية حقيقية وسريعة لهذه الصراعات والحروب والقضايا المشتعلة في قلب الشرق الأوسط والعالم العربي، بحيث يكون ذلك بالتوازي مع الاستفادة من خبرات مختلف الدول في مواجهة الموجة الأولى ومن بينها الخبرات المصرية الثلاث المشار إليها. أما الاقتصار في المواجهة الحالية على مثل تلك الخبرات المحلية والخاصة، فهو قد يفيد في تهدئة الموجة الجديدة من الإرهاب أو تراجعها المؤقت، ولكنه لن يؤدي على الأرجح إلى القضاء عليها تماماً، فذلك مرهون بصورة كبيرة بإنهاء الصراعات والحروب والقضايا المشتعلة التي تمثل الحاضنة الطبيعية لها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي