فض الاشتباك في قضية (القروض) ما بين المواطن والبنوك

[email protected]

ليس بجديد الجدل في ظاهرة القروض المصرفية خصوصاً الشخصية، فكثير من الكتاب والمحللين تطرقوا إليها، منبهين إلى خطورة تناميها، لما لها من تأثيرات اقتصادية واجتماعية! وقد احتلت آثارها السلبية والاجتماعية حيزاً كبيراً، على خلفية وقوع جميع الأسر السعودية رهينة تسديد الأقساط، ما انعكس على زيادة هذا النوع من القضايا في الجهات الحكومية ذات العلاقة، مثل: إمارات المناطق، المحاكم، والحقوق المدنية، ووزارة التجارة والصناعة!

والجديد في طرحي، أخذته من صديق مسؤول وهو صاحب رأي وخبرة عملية، لذلك سأحاول قراءة ذلك الطرح وتحليله ومحاولة الوصول إلى حل توفيقي بين أطراف القضية، حيث إن معظم الآراء وضعت المصارف في قفص الاتهام، باعتبارها المسؤول الرئيسي، فهي تغري العملاء بسيل من الإعلانات الترويجية التي يسيل لها لعاب المواطن، فيندفع إليها باحثاً عن "متعة" جديدة في استهلاك جديد، وما يلبث أن يفيق من صدمة المفاجأة، ليجد نفسه مكبلاً بأقساط تحول تلك المتعة إلى "نقمة" وربما كارثة تتمثل في البقاء خلف قضبان السجون.
كما أن معظم الطروحات، التي تناولت القضية كانت من جانب عاطفي كبير، وذلك بالنظر إلى القصص المأساوية التي ربما وصلت إحداها إلى بريد كاتب له زاوية في صحيفة يومية، فتفاعل معها بشكل سريع، وهو أمر لا ننتقده أبداً، بل نضع عليه أكثر من خط أحمر! في الوقت نفسه، غاب "المتهم الرئيسي" في كل الطروحات وأقصد به البنوك، ولا أذكر أن صحافياً أو كاتباً طرح السؤال على مسؤول مصرفي، سائلاً إياه، لماذا هذا التوسع في قطاع القروض الشخصية خصوصاً الاستهلاكية! وإضافة إلى ذلك أيضاً، لا نريد القسوة كثيراً على المقترضين من المواطنين، فهم كمثلهم في كل دول العالم، ضحايا عصر الاستهلاك منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، انتهى بهم أخيراً للاقتراض بسبب لتغطية تكلفة مطاردة موديلات الهاتف الجوال!
ونقف هنا نقطة نظام ونتأمل الظاهرة من الناحية الاقتصادية، وهو أمر لا يبدو سهلاً كما يظن البعض، فالقروض تعتبر واحدة من أهم أدوات السياسة المالية والنقدية، بيد أنها أخطرها! وليس ما أعنيه هو تطبيق المثل الدارج "ما زاد عن حده انقلب ضده"، فهو مثل دائماً نعود إليه، محاولين به تبرير أي فعل لدينا يتجاوز الحدود، على رغم أننا لا نعرف هذه الحدود أبداً!

والقروض واحدة من أهم السياسات المالية والنقدية في نشاط أي اقتصاد، وهي أيضاً المورد الرئيسي لأرباح القطاع المصرفي، فهي تشكل عادة أكثر من 55 في المائة، بحسب ما تفصح عنه قوائم الدخل السنوية. والنشاط الاقتصادي في أي بلد يعتمد على مؤشرات السيولة النقدية، وهي الترجمة العملية لقوة اقتصاد الدولة، فهي تعني أن هناك نقوداً متداولة في أيدي مكونات ذلك الاقتصاد من أفراد وشركات ومؤسسات يتم إنفاقها أو ادخارها محليا، وهو ما يعبر أخيرا عن الثقة في اقتصاد بلادهم فيتجهون إما لإنفاقها في السوق وإما ادخارها.
وهناك ثلاثة مصطلحات للسيولة أو ما يسمى وسائل النقد الثلاث (ن1، ون2، ون3) ينبغي تعريفها. وتعبر الوسيلة الأولى (ن1) عن النقد المتداول في أيدي مكونات الاقتصاد من أفراد وشركات ومؤسسات خاصة وعامة، مضافا إليها الودائع الجارية (ودائع تحت الطلب) وهي الودائع التي لا يحصل أصحابها على الفوائد. أما الوسيلة الثانية (ن2) فهي تمثل الوسيلة الأولى (ن1) مضافا إليها الودائع الادخارية، وهذا المقياس من أهم المقاييس فهو يدل على كمية النقود التي يتم ضخها في السوق من قبل الدولة والقطاع الخاص وبالتالي مستويات الإقراض الحكومي. وأخيراًَ الوسيلة الثالثة (ن3)، وهي تمثل إجمالي الكتلة أو السيولة النقدية مضافا إليها الودائع المصرفية بالعملات الأجنبية والاحتياطيات النظامية للاعتمادات والضمانات المصرفية التي تعرف بـ "أشباه النقود".
وأتصور أن القارئ سيسأل هنا، "مالنا ومال السيولة" وأرد قائلاً: إن مستويات هذه السيولة، هي سبب ما تراه من منافسة البنوك على راتبك، أو ما يعرف بسوق التجزئة! ما يحدث هو التالي، في ظل مستويات سيولة مرتفعة حالياً، فإن البنوك مطالبة بإحداث ما يسمى دفع مستويات الكتلة النقدية إلى الأعلى أو ما يعرف بعملية تكوين النقد داخل السوق، إذ إن مستويات السيولة الحالية تمثل وجها آخر يتمثل في انخفاض فرص الإقراض المصرفي الكبرى لأغراض زيادة رساميل الشركات والتوسعات.
وفي الجانب المقابل، فإن البنوك نفسها مطالبة بإحداث توازن ما بين سيولتها الداخلية وتدفقاتها النقدية فهي تقوم بعملية استقبال الودائع ومن ثم إعادة إقراضها، ما يعني أن المسؤولية عليها مزدوجة. وهي مسؤولية تمثل تحدياً، لتعويض هوامش إيراداتها من الإقراض التمويلي الكبير خصوصاً مع توقعات بتصاعد وتيرة تحسن مستويات السيولة خلال العامين المقبلين مع استمرار تحسن أسعار النفط وبالتالي إيراداته.
ناتج ذلك كله، أن حجم القروض الشخصية للأفراد بلغ في نهاية عام 2005 ما قيمته 198 مليار ريال وهو ما يعادل أكثر من عشرة أضعاف ما كانت عليه عام 2000م، نصيب النساء 25 مليار ريال مقابل 173 مليار ريال للرجال. مرة أخرى، لا أحاول تبرئة ساحة البنوك من الهجوم التسويقي للقروض، لكن في الوقت نفسه نلومها كثيراً، حينما تتجاوز دورها من لاعب رئيسي في النشاط الاقتصادي إلى "مضارب" على الأرباح فقط!
ففي مقابل "شهوة" البنوك نحو القروض الشخصية، فإن هناك شريحة كبيرة من صغار المستثمرين بحاجة ولو لقيمة 200 ألف ريال لتمويل إنشاء محل سباكة أو ورشة حدادة وميكانيكا أو مطعم، لكنهم لا يستطيعون توفير الضمانات التي تطلبها البنوك. وقد تتعذر البنوك هنا بأن هناك ثغرات في النظام القانوني في هذه الأنواع من النشاطات، وما يتطلبه من تعزيز حماية المصارف من تبعات التقاعس في التسديد خصوصاً بعد التجربة التي عاشتها في الأعوام الماضية في مجال تسهيلات بطاقات الائتمان وتقسيط السيارات.
وهذا العذر غير مبرر للبنوك أبدا، فتمويل الاستهلاك ينبغي ألا يتم على حساب تمويل الإنتاج، وبإمكان إعداد صيغ قانونية ناجحة بالتنسيق مع الغرف التجارية وديوان المظالم، تلجأ إليها البنوك للتعامل مع أصحاب المشاريع والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، خصوصاً أن الدراسات أثبتت أن أبرز مشكلة تعاني منها هذه الأخيرة هي التمويل والتمويل والتمويل.
ختاماً تحت هذا الإطار تنطوي مسؤولية المصارف في تكريس ثقافة الادخار، فنحن شعب لا يعرفها أبداً، ولم يعلمنا أحد إياها، وفي يقيني أن جهد تسويق الاقتراض، يمكن استثمار نصفه فقط لمصلحة الادخار. ولن تضيع البنوك جهدها، فالحصول على 500 ريال من مواطن شهرياً واستثمارها لمصلحته، فائدته كثيراً على استقطاب عميل لقرض تبلغ قيمته 500 ألف ريال، وللحديث بقية...

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي