الميزانية .. ما للوطن وما للمواطن

[email protected]

لا تحتاج الميزانية الجديدة إلى قراءة تفسيرية أو متخصصة لفهم محتواها, فأرقامها ومفرداتها واضحة للجميع, وأول ما يلفت النظر في هذه الميزانية إلى جانب حجمها الأكبر في تاريخ المملكة والإيرادات الضخمة التي بلغت حسب وزارة المالية 655 مليار ريال سعودي, وهو لا يبتعد كثيرا عن أعلى التقديرات كتقديرات مجموعة سامبا المالية التي توقعت أن تصل إيرادات المملكة إلى 761 مليارا بناء على أسعار النفط, وتوفر فائض مالي كبير مع وضع 100 مليار ريال احتياطيا.
أقول ما يلفت النظر هو أن مصروفات الميزانية ركزت على المشاريع التنموية التي تمثل بنية تحتية جديدة تؤسس لبداية نهضة قادمة, وهذا ما نخرج به من القراءة العامة للمشاريع المدرجة فيها كالقطاع الصحي: 380 مركزا للرعاية الصحية و13 مستشفى, قطاع التعليم والتدريب: أربع جامعات جديدة وجامعة واحدة للبنات وإنشاء أكثر من ألفي مجمع ومدرسة للبنين والبنات وسبع كليات تقنية للبنين وثلاثة معاهد عليا للبنات وتسعة معاهد للتدريب المهني. وفي قطاع الطرق والمواصلات: اعتماد طرق جديدة بطول 8200 كيلو متر وصرف 3.4 مليار لتطوير الموانئ والقطارات والبريد والمطارات, إلى جانب تخفيض الدين العام ومشاريع بنى تحتية في المدن الصناعية ودرء أخطار السيول وإنشاء سدود جديدة ومحطات تحلية إلى غير ذلك من المشاريع التنموية الجديدة.
ولا شك في أن استعراض ميزانية هذا العام يعطي مؤشرا على أنها ليست ميزانية تقليدية بقدر ما هي ميزانية إنشائية وتنموية, أي أنها ميزانية تؤسس لبنية تحتية جديدة في كل المرافق الاستراتيجية لكل تنمية مطلوبة, لتكون قاعدة انطلاق إلى مرحلة نهضوية جديدة. وهنا لا بد أن نتوقف عند جانب مهم ومؤثر يرتبط بقيمة ما ستفرزه هذه الميزانية من مشاريع جديدة من ناحيتين, الأولى: تكلفة هذه المشاريع, فالمبالغ التي نسمع عنها لتنفيذها كبيرة إلى حد المبالغة فيها, والناس يقيسون على واقع يعايشونه, ولذا فإن المطلوب هو التحقق من التكلفة الحقيقية وألا نطلق العنان للمبالغ الخيالية.
والثانية: أن تؤسس هذه المشاريع الجديدة وفق منظور خدمي ومستقبلي, وهنا علينا الاستفادة من خبرتنا من مشاريع الطفرة الأولى وما نتج عنها من نهضة تنموية قامت أساسا على الكم أكثر من الكيف تحت ضغط حاجتنا الملحة آنذاك إلى المشاريع التنموية العاجلة, وهو ما يعني أن تقوم مشاريعنا الجديدة لتحقق هدفين أساسيين, الأول القدرة الاستيعابية والتشغيلية لعقود من الزمن وليس لفترة محدودة كما هو حادث, وهذا يتطلب أن تنشئ وفق تخطيط مستقبلي, والثاني الحرص على أن يتم الإنشاء وفق مقاييس الجودة والكيف والنوعية وهو ما سيؤدي إلى إطالة عمر المنشأة وتشغيلها فترة زمنية طويلة من ناحية, ومن ناحية أخرى التقليل من تكلفة الصيانة, فكلما نفذت المشاريع بمواصفات الجودة العالية وليس الأرخص والأقل تكلفة دون مبالغة بالطبع, أنجزنا مشاريع يمكن استخدامها والاستفادة منها على مدى زمني طويل, وهذا بالطبع لن يتحقق إلا بوجود جهة رقابية حقيقية ومستقلة تعنى بقياس الأداء العام لكل الجهات الحكومية, وهذا ما سمعنا عنه أخيرا حينما قيل إن هناك هيئة مستقلة سيعلن عن تأسيسها قريبا جدا تعنى بقياس أداء الوزارات والمؤسسات الحكومية بعد الانتهاء من مشروع تقييم أدائها من قبل معهد الإدارة العامة في الرياض, وهذه خطوة ستكون في مقدمة خطوات الإصلاح الإداري الذي طال انتظاره.
إذا تحقق ذلك كله, بإذن الله, وسيتحقق بهمة القيادة وتوجهها الإصلاحي الواضح, فيكون الوطن قد كسب بنية تحتية حقيقية تدوم طويلا وتخدم أجيالا متعاقبة, فالخير وفير ليس باقيا إلا الإخلاص في العمل, والمواطن هو من سيكسب في كل الأحوال, فعندما يجد مستشفيات ومستوصفات حكومية تقدم له العلاج والعناية الطبية وتغنيه عن تكلفة القطاع الخاص الباهظة, ويجد لأبنائه مدارس كافية ومتكاملة تعليميا وتربويا ووفرة جامعات وكليات وطرق وشوارع بمواصفات عالية لا تحتاج إلى رصف كل عام, وبنية تحتية عملية في كل المرافق المختلفة وحلول لمشكلاته المحورية, يكون قد توافرت له وسائل حياة متطورة وراقية تتوافق مع إمكانيات بلاده, وبذلك يكون قد تحقق شق أساسي في تنمية ذات أسس قوية قادرة على الاستمرار طويلا, وهو شق خاص بالوطن ومن ضمنه المواطن, وبقي حق المواطن المباشر, فالتنمية الحقيقية والإيجابية لا تكون إلا في ظل قدرة معيشية متوازنة ما بين دخل ومصروف المواطن, وهناك اختلال واضح في هذه المعادلة, والسبب هو في أن الأسعار باتت مكلفة ومرهقة حتى لأصحاب الدخول العالية, ونحن نتحدث عن أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية التي لا يستغني عنها أي مواطن. وبقدر ما سعد وفرح المواطن بميزانيته الخيرة وما حملته له من أخبار سارة وواعدة, بقدر ما كانت هذه السعادة وهذا الفرح ستكتمل لو أن الميزانية شملت بخيرها رفع مستوى معيشة المواطن من خلال تخفيض أسعار خدمات أساسية مثل الكهرباء والهاتف والغاز وإعادة الدعم إلى كثير من السلع الاستهلاكية الضرورية والدوائية وغيرها. فالأسعار في ظل وضعها الحالي وتصاعدها بين وقت وآخر لا يعالجها إلا تخصيص جزء من ميزانية الخير من ملك الخير لرفع المعاناة المعيشية للمواطن. وهذه ليست أحلاما, فقد تعودنا من قيادتنا كل الخير دائما, وبذلك يكون قد اكتمل خير الميزانية ما بين الوطن والمواطن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي