( شـــابْ ولا تــــابْ)
حدوث تحركات طفيفة في مؤشرات نشاطات الاقتصاد الأمريكي المحلية، لمستقبل انخفاض سوق الطلب على المساكن في الولايات المتحدة، ومتغيرات مستويات العمالة، سلـَّطت أضواء المعلقين الماليين واهتمام كتاب الأعمدة الاقتصادية على مخاطر زيادة تدني انخفاض الميزان التجاري الأمريكي السنوي إلى 6.5 في المائة من إجمالي الناتج القومي، وتثبيت القناعة أن الاستهلاك المحلي الأمريكي يتخطى قدرته الإنتاجية ويصعِّد من استمرارية تزايد الرفاهية الأمريكية بالدين الخارجي بنفس المعدل. استمرارية العجز السنوي، يزيد الدين الخارجي وتخطيه الخمسة آلاف ترليون دولار أمريكي تباعاً لسنوات عجاف قادمة ولصالح المناطق التجارية المصدِّرة من السوق الأوروبية إلى اليابان والصين ودول شرق آسيا. معالجة انخفاض الدولار الأمريكي من منظور تعليقات الكتاب الاقتصاديين المتخصصين الغربيين تنحصر في معدلاته السوقية مع العملات العالمية الرئيسية، وبعيدا عن قيمته الشرائية في داخل الأسواق الأمريكية والمناطق الدولارية. أحوال الدولار الأمريكي الشرائية داخل الاقتصاد الأمريكي يتولى تنظيمها البنك المركزي الأمريكي ضمن مسؤولياته واهتماماته بالنمو الاقتصادي الأمريكي والتضخم. اهتماماته يتابعها (بإيقاعات) مدروسة لتحركات سعر الفائدة والتحكم في كمية تداول النقود المعروفة محلياً والمجهول مقدارها دولياً. انتشار الدولار الأمريكي عالمياً واهتمامات تغيَّر قيمته، مقابل العملات الأجنبية، إعلامياً محصور في عملات الدول الصناعية الثلاث – اليورو، الين، والجنيه الاسترليني. الصين تثبت سعر عملتها للدولار الأمريكي بمعدل داعم لصادراتها ويعتبره الأمريكان مجحف الانخفاض. دول شرق آسيا حريصة على أن تعدِّل علاقة عملاتها مع الدولار الأمريكي "بيدٍ خفية" لا تجرح حرية السوق. الدول البترولية الخليجية تحافظ على ثبات العلاقة التقليدية بين العملات المحلية والدولار الأمريكي. تدوير فوائض أرصدتها من الدولار الأمريكي في القرن الواحد والعشرين يخالف ما اعتادته في العقدين الأخيرين من القرن الماضي. توجهات الفوائض الدولارية تسير حالياً نحو الإنفاق التنموي المحلي. فوائض الدولار الأمريكي للدول البترولية الخليجية تساند المراكز الدولارية بتثبيت سعره مع العملات المحلية. يترتب على هذا النهج زيادة مشتريات البضائع الأمريكية على حساب خلافها خارج منطقة الدولار. المفترض أن يخدم هذا التوجه المزاحمة الأمريكية. زيادة الصادرات الأمريكية لدول الخليج يتوقع أن يخدم مصلحة الطرفين ويعطي الدول البترولية الخليجية فرصة إعلامية داخل الولايات المتحدة لتحسين المفاهيم الخاطئة نحو توجهاتها، وإزالة العوائق لسلاسة تزايد التعاون التجاري الأمريكي - العربي ودوره في دعم الدولار الأمريكي عن طريق هندسة للمعطيات الدولارية المتوافرة من تنشيط التجارة الدولية في الاتجاهين. الاعتراف الأمريكي الحكومي بدور الاقتصاد العربي الداعم لعملتهم، في بناء كياناته، يستحق أن يعطي الأمريكان حكومة وشعباً، كثيرا من المساندة لمشكلتهم الاقتصادية الاجتماعية، وتخفيف الإجراءات العشوائية (الجائرة) في طريق الاستثمارات العربية داخل اقتصادهم.
الانخفاض في الميزان التجاري الأمريكي للعام الجاري ليس فقط لزيادة الواردات عن الصادرات، ولا لتعدي الاستهلاك الأمريكي عن المعدلات المعتادة، بقدر أنه يعكس نقص التدفقات النقدية الأجنبية الصعبة للاقتصاد الأمريكي. المتخصصون يرصدون الأسباب، أبرزها ارتفاع سعر الفائدة على اليورو والتخوف من نقص سعر الفائدة على الدولار الأمريكي وخشية تغير أساسيات السياسة الأمريكية الاقتصادية نتيجة للتركيبة الحاكمة القادمة لمجلسي التشريع. الظواهر الحياتية المساندة لتهذيب العلاقة السعرية للدولار الأمريكي مقابل عملات الاقتصادات الصناعية الرئيسية تغيب عن الأضواء: (نفرة) البريطانيين والأوروبيين للتسوق للأعياد المقبلة في الولايات المتحدة لفارق القيمة من ربحية فروقات العملة وتخفيضات أجور النقل الجوي والفنادق .. إلخ إلى اقتناء البضائع الصينية الصنع بعلامات أمريكية وعملة مزاحمة وأسعار متهاودة.
الدولار الأمريكي في داخل أمريكا لا يمثل مشكلة للعالم قاطبة. البنك المركزي قابض على سلامة الأمور، فيما يتعلق بكمية النقود وتداولها وتوافرها والنمو والتضخم. (وزن) الشؤون النقدية العالمية من منظور المصالح الاقتصادية المحلية يصعب تحقيقه دون الدخول في موازنات تتعلق بالتجارة الدولية التي (تغطي) معظمها الولايات المتحدة وتتفوق على حصص باقي الدول، ويترتب عليها عالمياً المشاكل الدولارية المتصلة بجميع اقتصادات العالم. تسييس الدولار الأمريكي لا تستقيم ظلاله والعود أعوج. الدولار الأمريكي خلال الثلاثين عاماً الأخيرة من القرن العشرين (رفرف خفاقاً) في مقدمة باقي العملات العالمية الصعبة. تدهور انخفاض معادلة سعر الدولار الأمريكي أمام عملات الدول الصناعية الغربية تكرر ظهوره مع بداية القرن الواحد والعشرين مسجلاً أعلى مستويات الانخفاض هذا العام لليورو 12.7 في المائة والاسترليني 15.20 في المائة. انخفاضه يتلاشى أمام عملات الاقتصاديات المزدهرة المهندسة لعملاتها مثل دول شرق آسيا والقابضة على معدلها مثل الصين. الأضرار المخفية تتعرض لها اقتصادات الدول التي احتياطياتها بالدولار، وثبات سعر العملة المحلية بدون اعتبار لتغير المعدلات السوقية العالمية للدولار. تفاقم الضرر من زيادة الأسعار محلياً كلما زادت وارتفعت حصة وارداتها من دول خارجة عن مناطق النفوذ الدولاري، و(يزيد الطين بلة) تصاعد دخولها الدولارية. الاقتصادات التي معدل ثقل تجارتها في المنطقة الدولارية كبير، لكن نموها وازدهارها السنوي دون 1 في المائة قادرة على أن تهندس علاقة عملتها مع الدولار الأمريكي لتقوية العملة المحلية. البرازيل رفعت معدل عملتها السوقي مقابل الدولار من 3.25 ريال عام 2002 إلى 2.00 ريال هذا العام.
إدارة تجارة العملات المختلفة دولياً مقابل الدولار الأمريكي مهارة وحرافة مثل سوق المال محلياً. كل منها تحترق مراكزه، ويتضرر (العالي على الواطي) لمن لا يجيد تناقل "كيف" المراكز. يرى كثيرون أن المشكلة الدولارية ناتجة من تباين الأوضاع الاقتصادية بين الولايات المتحدة الأمريكية والاقتصادات الصناعية الغربية واليابان والصين. تفاقمها عمَّقهُ توسع تجارة الخدمات المالية والنقدية دوليا لمستويات غير مسبوقة. استمرار اعتماد (معدل) الدولار الأمريكي وسيطاً دولياً للتجارة العالمية دون اعتبار للتأثيرات السالبة على الدولار عملة للتداول لباقي اقتصادات العالم المتعاملة بالدولار الأمريكي يطغى على مفهوم دوره النقدي. خطأ هذا الفكر يتشابه مع اعتبار (معدل) الأسهم السعودي العامل المشترك الأعظم للمتابعة والقرار. التداول الصحيح ليس مع اعتبار (إجمالي أسهم) الشركات العامة (كحزمة كُرَّاث) يعرف حقيقة قيمة مكوناتها الداخلية (الراسخون) في علومها ليدخلوا ويخرجوا في (العيف والهبر)، محققين بالقليل الكثير من ظهور ضعاف الله.
التدرج في انخفاض (المعدل) الدولاري محتمل والانهيار العاجل مستبعد. الإصلاح يكمن في التعرف على الأسباب لظهور المشكلة واستفحالها وقبول تقديم التضحيات التي تفرضها الحقبة الزمنية التي تعيشها المشكلة، وفقاً لقراءات متجردة محلية لسوق المال ودولية سوق العملات ومردودات محلية للمشكلة. تفيد آخر التقارير أن الصين تزود السوق الاستهلاكية الأمريكية بنصف احتياجاتها، ويمكن خفضها بتعويم عملتها مقابل الدولار لترتفع أسعار منتجاتها أو زيادة وارداتها من المنتجات الأمريكية أو إيقاف شراء السندات الحكومية الأمريكية مقابل الفوائض الدولارية لتقليل بيع منتجاتها (بالشكك). قوة الاقتصاد الأمريكي كفيلة بتعويض الواردات من نقص الاحتياجات على حساب الإنتاج الحربي أو تقليل الاستهلاك. الكاتب الاقتصادي ربنسون يقول: (هناك رأي اقتصادي بعيد المدى (ماكرو). آجلاً أو عاجلاً، فإن الدول المصدرة للولايات المتحدة الأمريكية ستفقد صبرها في توريد منتجات مصنعة وزيت مقابل وصولات. توقف شرائهم سندات الحكومة يترتب عليه انخفاض الدولار، ويزيد من أسعار تكلفة الواردات الأجنبية لأمريكا، وتصبح الصادرات الأمريكية أكثر مزاحمة ويترتب عليه تصحيح العجز).
الواقع مغاير للخيال. الفكرة المقدمة حديثاً معروضة من ماضي الزمان. أضرار (أكل) الفرش مغايرة لعِّده. الاقتصاد المصدِّر يسعى لتوفير التزاحمية أمام الغير، ولا يقبل التنازلات للغير. الكل يحرص على تصحيح قدراته الإنتاجية وترتيب أموره المعيشية ويكبِّر لحافه على قدر امتداد رجليه، أو أن يمدهما بقدر لحافه. الصينيون رافضون رفع قيمة عملتهم مقابل الدولار الأمريكي لتخفيض صادراتهم. الأمريكان فاشلون في زيادة صادراتهم على الرغم من انخفاض معدل سعر عملتهم. تكلفة مستوى معيشتهم مرتفعة لما يفوق دخلهم القومي المحقق. العملة الورقية في التجارة العالمية تمثل القيمة الورقية المقررة من دولة إصدارها و(زبزبتها) أمام العملات الأخرى توفر المركز التزاحمي التجاري المقارن. استمرار الفرق بين معدلات العملات على أسعار السلع والخدمات دولياً، يتماثل مع الضريبة والإعانة المفروضة محلياً.
العملات الرائج قبولها بدرجات متفاوتة في تمويل التجارة العالمية محصورة في الدولار الأمريكي والجنيه الاسترليني والين الياباني واليورو. الأولى قبولها عالمياً جيد وتوافرها يموِّل كثيراً من احتياجات الاقتصاد الأمريكي ويسهل التبادلات التجارية دولياً. كمياتها غير معروفة دولياً، وحركة تداولاتها ليست مرصودة. الانخفاض المستمر في معدلها للعملات الدولية لا بد أن يتماشى مع كثرة وتوافر كميتها. الفصل بين الدولار العملة المحلية للتداول داخل الاقتصاد الأمريكي، يكمن في أنَّ قيمته يحددها التضخم والنمو وسعر الفائدة. عالمياً الدولار عملة تداول نقدية ومعدَّل للتداول العالمي بدون (حارس). تفاوت سعر الفائدة بين الدول الصناعية مبرر لتغيرات معدلات أسعار العملة، وقضية مُسلـَّم بها بدون إثبات على طريقة تفسير (الماء بعد الجهد بالماء). العولمة ترتـَّب عليها تزايد ارتفاع تجارة التعاملات المالية والنقدية دولياً. التجارة الدولية في النقود أصبحت عصب التعامل بعد أن طغت على تجارة السلع والمنتجات الاستهلاكية والثقيلة والحربية، دون تغير كبير على آليات التحكم في الدولار الأمريكي، ولا الاهتمام الكبير المماثل للاتفاقيات العالمية ومجريات الأمور في اقتصادات الدول الصناعية.
الدولار الأمريكي معدل سعري للعملات الدولية في التجارة العالمية يتأثر بالكميات (المضخوخة) في الأسواق العالمية. الزيادة في وجود كمياته تسهل التبادلات الأممية، بالسعر الذي يحدده السوق العالمي. كثرة الإصرار لتداوله عالمياً، تزيد من مكاسب المتاجرة فيه، وارتفاع الصادرات الأمريكية وخفض قيمة المنتجات الأمريكية المصدرة. تمكن الاقتصاد الأمريكي من هذا التوجه فيه نظر لتحقيق التقدم المطلوب لخفض الميزان التجاري السنوي عن 6.5 في المائة وتسديد الدين الخارجي المقدر زيادته عن خمسة آلاف ترليون دولار أمريكي.
إدارة محافظ البنوك المركزية في الظروف النقدية الصعبة القائمة فيه كثير من التحديات (الممتعة). مراجعة مراكز الفوائض النقدية يتطلب مهارة فائقة لتصبح تجارة رابحة. اختيار المعدل الأمثل للعملة المحلية يفضل ألا يدخل فيه احتمال ضريبة خفية على المستهلك. تحديده بشفافية خدمة للصالح العام، تستهدف تحسين الأحوال المعيشية للمواطن وتدعم سياسة تنويع الدخول والازدهار والتنمية. الاهتمام بإدارة فوائض الأموال مصدر مضاف مهم للدخل القومي لا يلاقي الاهتمام الظاهر الواضح لإدخاله ضمن تنوع الدخول القومية. الدولار الأمريكي فقد كثيرا من مصداقيته في التعاملات الدولية. الاستمرار في قبول تداوله تفرضه الحاجة للبديل. إذا لم تعتدل أحواله في العقدين المقبلين، تصبح العملة الصينية نديداً مرادفاً قوياً للدولار الأمريكي. الانهيار الدولاري الأمريكي غير وارد حتى الآن: مصالح كثيرين في ضعفه، وضررهم في اختفائه. والله أعلم.