قمة الأطلنطي والأوضاع في أفغانستان

[email protected]

بعد يومين من الانعقاد المتواصل والمباحثات الصعبة نجحت قمة الدول الأعضاء في حلف الأطلنطي التي انعقدت في عاصمة لاتفيا في التوصل إلى قرار موحد بشأن الأوضاع العسكرية في أفغانستان. وعلى الرغم من أن موقع انعقاد تلك القمة في هذه الجمهورية السوفياتية السابقة والتي مثلت مع كل من ليتوانيا واستونيا الحافة الغربية للاتحاد السوفياتي السابق يعطي إشارة رمزية واضحة على المدى البعيد الذي وصل إليه انتصار ذلك الحلف في تحقيق مهمته الرئيسية التي أقيم بسببها وهي مواجهة الكتلة الشيوعية، فإن الموضوع الأفغاني الذي تفرغت له القمة تقريباً يعطي إشارة أخرى واضحة على أنه لا تزال هناك مصاعب حقيقية تواجه الحلف العسكري الأكبر اليوم في العالم لبسط نفوذه. والمفارقة اللافتة هنا هي أن الحلف الذي يعقد قمته في ذلك المكان الرمزي المؤكد لانتصاره ناقش هناك الموقف الصعب الذي توجد فيه قواته في البلد نفسه، أي أفغانستان، الذي مثل التورط السوفياتي العسكري فيه العامل الأخير الذي عجل بانهيار الإمبراطورية السوفياتية.
ولا شك أن ما دفع الحلف إلى تخصيص قمته هذه لمناقشة الأوضاع في أفغانستان كان هو ذلك التدهور الواضح الذي راح هذا البلد ينزلق إليه بعد خمس سنوات من نجاح القوات الأمريكية في احتلاله وإسقاط حكم حركة طالبان فيه وتنصيب الحكومة التي يقف على رأسها منذ ذلك الوقت الرئيس حاكم قرضاي. فقد عرف العام الأخير تصاعداً نوعياً واضحاً في عدد ونوعية الهجمات التي راحت حركة طالبان وحلفاؤها من القوى الأفغانية الأخرى تقوم بها ضد القوات الأجنبية وعلى رأسها قوات حلف الأطلنطي والقوات الأمريكية فضلاً عن القوات التابعة للحكومة الأفغانية. وقد أكدت تلك الهجمات المتواصلة والمؤثرة الحقيقة التي كان العديد من المراقبين والمحللين للأوضاع الأفغانية يتنبأون بها منذ سقوط حكم طالبان، وهي عودة تلك الحركة للنشاط والفاعلية وقدرتها على استعادة تنظيمها ونفوذها في العديد من المناطق الأفغانية وبخاصة في جنوب البلاد وشرقها. ولا شك أن تلك العودة لطالبان لم تتجل فقط على الصعيد العسكري ولم تنجم فقط أيضاً عن عوامل عسكرية، فقد تجمعت عوامل عديدة سياسية واجتماعية ودينية وغيرها لكي تجعل من تلك العودة أمراً لا مهرب منه ولكي تجعل أيضاً من تجلياتها العسكرية الخطر الأكبر الذي اضطر حلف الأطلنطي إلى مناقشته في قمته الأخيرة.
وعن هذا الخطر العسكري المتصاعد لحركة طالبان وآثاره على الوضع الداخلي وعلى القوات العسكرية الأجنبية وبخاصة الأمريكية والتابعة لحلف الأطلنطي تحدثت تقارير دولية عديدة أجمعت كلها على أهميته وعلى ما أدى إليه من خسائر حقيقية في صفوف تلك القوات. ولعل أحد أبرز وآخر تلك التقارير ذلك الذي أصدرته "هيئة المراقبة والتنسيق المشترك" المشكلة من مسؤولين أفغان ودوليين للإشراف على تطبيق ميثاق أفغانستان الذي يشمل خطة خمسية لتنمية وإعادة إعمار البلاد. ويوضح التقرير أن هجمات المليشيات المسلحة وفي مقدمتها طالبان ارتفعت إلى أربعة أضعاف خلال العام الحالي وحده، حيث بلغ عدد الهجمات شهرياً خلال الشهور الثلاثة الأولى من العام الحالي وحتى نهاية آذار (مارس) الماضي نحو 300 هجوم، بينما بلغت أكثر من 600 هجوم شهرياً منذ ذلك الوقت وحتى نهاية شهر أيلول (سبتمبر) الماضي. وبمقارنة هذا العدد الكبير من الهجمات وتضاعفه خلال العام الحالي وحده مع معدل الهجمات الشهرية خلال العام الماضي، والذي بلغ نحو 130 هجوما، يتضح المنحى التصاعدي الخطير الذي دخلت إليه الأوضاع العسكرية والأمنية في أفغانستان. وحسب التقرير نفسه فقد أدت الهجمات التي وقعت خلال العام الحالي وحده وحتى نهاية شهر أيلول (سبتمبر) إلى مقتل نحو 3700 شخص من الأطراف المتصارعة كافة. ولم يتوقف ذلك التقرير عند الحديث عن التدهور العسكري في أفغانستان بل تطرق أيضاً إلى نتائجه الوخيمة على ما أسماه "المكتسبات" التي تحققت في المرحلة السابقة التالية لسقوط حكم طالبان وفي مقدمتها أنشطة التنمية التي تضررت في العديد من مناطق البلاد بما في ذلك الانسحاب الجزئي أو الكامل لبعض المنظمات الدولية التي كانت تقدم مساعداتها للمجتمع الأفغاني في تلك المجالات. كذلك أكد التقرير أن انتشار الفوضى الأمنية في البلاد قد أدى إلى تصاعد تجارة المخدرات، التي يرى أنها تمثل المصدر الرئيسي لتمويل المليشيات المسلحة في أربعة من أقاليم أفغانستان الساخنة، بنسبة تزيد على 60 في المائة في العام الحالي عما كانت عليه في العام الماضي.
في مواجهة تلك الأوضاع المتردية في أفغانستان وبخاصة على الصعيد العسكري والأمني استطاع حلف الأطلنطي في قمته الأخيرة أن يتجاوز الخلافات الكبيرة بين دوله بشأن إستراتيجية تحرك قواته هناك، وبخاصة ما يتعلق برفض العديد منها نشر قواتها في المناطق المشتعلة عسكرياً وتفضيلها إبقاءها في المناطق الأكثر هدوءاً وأمناً. فقد توافق الحلفاء على تعزيز وتوسيع مهام قوات الحلف في أفغانستان و"تصعيد" العمليات ورفع القيود المفروضة على قواعد الاشتباك التي رأوا أنها كانت تحد من فعاليات أداء تلك القوات هناك. كما توافق قادة الحلف على مد تلك القوات بمزيد من المعدات العسكرية والأعداد الإضافية من الجنود فضلاً عن تشكيل "مجموعة الاتصال الدولية" التي اقترحها الرئيس الفرنسي جاك شيراك من أجل توسيع مشاركة دول أخرى من خارج الحلف بجهودها وقواتها العسكرية في أفغانستان. ومع كل ذلك، ومع الدعم الكبير الذي تلقته قوات الأطلنطي في أفغانستان في مواجهة التصاعد المضطرد لقوة ونفوذ طالبان، يظل التكهن بما يمكن أن يشهده ذلك البلد من تطورات عسكرية أو سياسية خلال الشهور القليلة المقبلة أمراً شديد الصعوبة وتظل فيه الاحتمالات مفتوحة على كل الاتجاهات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي