نحن والآخر بين مد المصالح وجزر الثوابت

[email protected]

"نحن والآخر" عنوان جذّاب تحدث عنه أناس كثر من خلال الإعلام المقروء والمسموع والمرئي. "نحن والآخر" كان موضوع اللقاء الخامس لمركز الحوار الوطني، والذي عقد في أبها العام الماضي وذلك نظراً لأهمية إكساب أبناء المجتمع المنطلقات، والأسس التي تؤخذ في الاعتبار عند التعامل مع الآخر. وعند طرح هذا الموضوع لا بد من نسأل أنفسنا من هو الآخر الذي نتحدث عنه؟ الآخر قد يكون زوجاً أو ابناً أو جاراً أو قد يكون عدواً، سواء فرداً أو مجتمعاً أو أمة. وقد يكون هيئة أو مؤسسة دولية مثل هيئة الأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي أو قد يكون رئيساً في العمل.
علاقتنا بالآخر تعتمد على إدراكنا لذواتنا نحن وإدراكنا في ذات الوقت أن الآخر طرف آخر له نمط حياته وتفكيره ومشاعره واتجاهاته وله طموحاته وقيمه، بل وقد يكون مختلفاً في معتقده، وله كذلك مصالحه التي تستحوذ على مشاعره وتفكيره وطريقة تصرفه وتعامله معنا.
وأنا في هذا المقال لن أتناول الآخر القريب أو الذي هو جزء من الذات حتى وإن اختلف معنا في بعض الجزئيات، بل سأتناول الآخر الذي يختلف معنا في كثير من الأمور, ذلك الآخر الذي لا بد من أن نتعامل معه إذا أردنا أن نحقق عمارة الأرض كما أراد الله لنا كبشر. وعمارة الأرض لا تتحقق إلا بالتفاعل مع الآخرين وتبادل المصالح معهم في التجارة والصناعة والزراعة ومناحي الحياة كافة. وإزاء العلاقة بالآخر يتساءل البعض: هل العلاقة من طرف واحد يعطي ولا يأخذ ويَحترم ولا يُحترم يراعي ويداري وغيره غير مبالٍ؟ كلا، فالعلاقة لا بد لها أن تكون ندّية حتى وإن اختلفت موازين القوى بين الطرفين، خصوصا في مجال احترام كل طرف للآخر في ثقافته وقيمه ونظمه.
إن العلاقة بالآخر كما رسمها الإسلام تقوم على ركائز أساسية منها: إدراك وحدة الخلق للناس جميعاً، حيث إن المنشأ واحد حيث يقول الباري: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
كما أن العلاقة تؤسس على العدل والاعتراف بما لدى الآخر من محاسن وأمور إيجابية. "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى".
كما أن الحكمة تمثل منطلقاً مهماً في العلاقة خصوصا حين ندعو الآخر أو نجادله ونناقشه في قضية أو أمر من الأمور التي نرغب في إقناعه بوجهة نظرنا إزاءها. "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن".
إن حسن إدراكنا للمنطلقات التي يصدر منها الآخر ومنظومته الفكرية والثقافية التي تشكل قيمه مثل قيمة حب العمل والكسب والإثراء، فإن ذلك تساعد على تعامل أفضل، فعلى سبيل المثال، التفكير البراجماتي أو النفعي يمثل حجر الأساس في التفكير لدى الشعب الأمريكي وساسته ومؤسساته، ويضاف لما سبق من مستلزمات العمل والتعامل الناجح مهارات الحديث والتفاوض الناجع الذي نحقق من خلاله مكاسب تفيد المجتمع، ولا يتحقق النجاح في التفاوض بدون معرفة واعية وشاملة حول الآخر الذي نحتاج إلى التعامل معه.
الآخر حين يعيش بيننا له حق الاحترام والمحافظة على حياته وممتلكاته لكنه في الوقت ذاته ملزم بواجبات عليه الوفاء بها، إذ من الواجب أن يحترم ثقافة المجتمع ولا يقدم على ما يستفز به مشاعر أبنائه، كما أن عليه احترام الأنظمة، والمعايير، والعادات، والتقاليد، وعدم التدخل في شؤون المجتمع كبرت أم صغرت، لكن البعض منهم لا يلقي بالاً لهذه الأشياء، ويتصرف وفق ما يريد وحسب شهواته ونزوات نفسه ضارباً عرض الحائط بمشاعر الناس وأحاسيسهم، يتصرف وكأنه في بلده وهو بهذا يخالف الأنظمة، ويستثير الناس, وفي مثل هذه التصرفات سبب للخلاف والاختلاف مع الآخر. وحتى مع هذا الوضع فمن حقه علينا أن نبصره بسوء تصرفه ونلفت انتباهه لذلك دونما تعدٍ عليه أو مساس بدينه "لكم دينكم ولي دين"، لكنه إن تمادى في ممارساته وغيه وخرج على النظام والقانون فالواجب ـ والحال هذه ـ محاسبته وفق النظام والقانون الذي يعلم قبل قدومه إلى البلد أن عليه احترامه والالتزام به. وهذه المحاسبة لا تتم من خلال تصرفات فردية تحركها الغيرة على المجتمع، بل لا بد من أن يتم هذا عبر القنوات الرسمية ووفق الآليات المعتبرة في هذا الشأن.
إن الآخر عندما يعتدي ويتجنى علينا في ديننا ومقدساتنا ومناهجنا وقيمنا وثقافتنا يستوجب أن نتعامل معه بما يقتضيه الموقف، نتعامل كوحدة متماسكة في عقيدتها وهويتها ومصالحها كافة ولا أدل على ذلك من ردود الفعل إزاء الرسوم المسيئة للرسول (ص)، حيث تحرك الجميع وقاطعوا البضائع الدانماركية، وإن لم تلبث هذه المقاطعة لفترة طويلة رغم تمادي الدنماركيون في تصرفاتهم السيئة فهل نعمل دائماً بهذه الروح؟!
الأساس في العلاقة بين البشر التعامل بالحسنى والاحترام والتقدير بين الأطراف كافة دون مساس بالآخر في عقيدته أو ثقافته أو مصالحه، لكن هذا لا يجب أن يكون على حساب الذات ومصالحها، ذلك أن البعض ما إن يلمس أي تنازل إلا ويستغله لمصالحه حتى ولو ترتب على ذلك إضرار بالطرف الذي يتعامل معه أو إهانة لكرامته. ومع الطفرة الاقتصادية والتقنية والعلمية والمعرفية في العالم تشابكت المصالح بين المجتمعات ولم يعد لأي مجتمع أن ينغلق على نفسه ويكتفي بما لديه من معارف وموارد وتقنيات، بل لا بد له من تبادل المصالح والمنافع مع الآخرين, ووفق هذا الوضع لا بد من التهيؤ بما يكفي لحسن التعامل وبما يحقق المكاسب المشروعة، وأول متطلبات التهيؤ هو تقبل الآخر، كما هو ليس إيماناً بما لديه من معتقد أو ثقافة، لكن إدراك أنه لا مناص من التعامل معه وتزويده بما لدينا والأخذ مما لديه، وحتى نحقق أكبر المكاسب يستلزم الأمر اكتساب مهارات التعامل الفعّال والتفاوض الجيد، وهذه تتطلب التدريب والتقبل والإلمام بمعلومات كافية عمن نتعامل معه في تكوينه النفسي ومنطلقاته الفكرية ومنابعه الثقافية إذا أردنا أن نكسب الجولة لنا ونظفر بالمكاسب ونحافظ على المصالح والثوابت في الوقت ذاته.
ما من شك أن علاقتنا بالآخر يتداخل في تشكيلها الثوابت والمصالح، وقد نندفع وراء المصالح المادية ونغفل الثوابت، ما يترتب عليه تراجعها أمام زحف المصالح وقوتها، كما أن الثوابت قد تكون حاضرة في مواقف أخرى ونصر عليها ونغفل المصالح, وبمثل هذا الإصرار نخسر المصالح والثوابت معاً وينطبق على مثل هذه الحالة المثل القائل: فلا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى، وأبرز مثال على هذا الوضع ما حدث للولايات المتحدة الأمريكية في العراق حين قادها الفكر النفعي لخوض الحرب ضد هذا البلد رافعة شعار الديموقراطية والحرية حتى إنها خسرت مادياً ومعنوياً، وبذا خسرت المصالح التي شنت الحرب من أجلها وفي الوقت نفسه خسرت مبادئها وثوابتها ولم يعد لها صدى لدى الشعوب التي تبشرهم بها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي