شكوى المبتعثين وعلاجها
قبل عام تقريباً كتبت في "الاقتصادية" مقالاً عن برنامج خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لابتعاث الطلبة للدراسة في الخارج. ذلك البرنامج الذي شرع أبواباً واسعة أمام نخبة من شبابنا نحو آفاق مشرقة حافلة بالفرص والآمال لتحقيق أحلامهم والمشاركة في بناء مستقبل وطنهم. ونوّهت يومئذ بالجهود الكبيرة التي بذلتها وزارة التعليم العالي في تصميم البرنامج في زمن قياسي وإدارته بدرجة عالية من الشفافية طرحت أمام المتقدمين خيارات واضحة وشروطا موحدة.
يعد برنامج الملك عبد الله للابتعاث واحداً من أفضل الاستثمارات في السنوات الأخيرة، وخطوة مهمة ضمن منظومة الإصلاحات الاقتصادية والتعليمية، إذ سيفتح ذلك البرنامج للمملكة المزيد من قنوات العلم والمعرفة كما سيرفدها بكوادر مؤهلة للعمل في بيئة منافسة متعددة الأطراف. وهناك مكاسب أخرى ستجنيها المملكة أيضاً من برنامج الابتعاث، منها مد جسور أقوى للتبادل الحضاري والثقافي مع مراكز مرموقة في العالم الجديد.
إن الجهود التي تبذلها وزارة التعليم العالي في إدارة برنامج الابتعاث لا تقتصر على اختيار المرشحين وتزويدهم بأوامر إركاب إلى أماكن دراستهم في الخارج فحسب، بل تمتد رعايتها أولئك المبتعثين طوال فترة دراستهم، بصرف مخصصاتهم الشهرية، تسديد رسوم جامعاتهم، ومساعدتهم في جوانب أخرى كثيرة وما قد يصادفهم من عقبات. وتلك الرعاية تباشرها الوزارة عبر مكاتب مرتبطة بها يرأس كلا منها ملحق ثقافي يعاونه عدد كبير من الإداريين والمشرفين الأكاديميين. وهي آليات ليست بالجديدة بل قائمة منذ سنوات طويلة تزيد على نصف قرن من الزمن.
وعلى الرغم من تلك التجربة الطويلة لمكاتب الملحقين الثقافيين في الخارج، والمبالغ السخية التي رصدتها الدولة لتمويل برنامج الملك عبد الله للابتعاث، بدأت تطالعنا في الصحف المحلية في الآونة الأخيرة وبوتيرة متزايدة شكاوى عن معاناة بعض الطلبة المبتعثين جراء تأخير صرف المكافآت الشهرية وتسديد الرسوم الدراسية للجامعات، وكذلك تأخير فتح ملفات الطلبة المستجدين بحجة ضياع الأوراق والمستندات. كما تضمنت تلك الشكاوى صعوبة الاتصال بالمشرفين الأكاديميين والمسؤولين الآخرين في الملحقية. ويبدو أن هناك أسباب عدة تراكمت, ما أدى إلى حدوث فجوة بين احتياجات الأعداد الكبيرة للطلبة المبتعثين وقدرة الملحقيات على مواكبة تلك الاحتياجات في المواعيد المطلوبة.
قد يقول قائل إن هذه مرحلة مؤقتة سيتم تجاوزها تدريجياً بزيادة عدد العاملين في تلك المكاتب، تكليفهم بالعمل أوقاتاً إضافية، ومتابعة أدائهم بشكل أفضل مما سبق. ربما يشكل ذلك حلاً، لكنها تبقى معالجة تقليدية نجاحها غير مضمون فضلا عن أنها ستترتب عليها تكاليف باهظة من إيجارات لمكاتب ورواتب ومصروفات تدريب، إلى آخره، ولن تؤتي بثمارها بشكل سريع كما قد يتراءى للبعض. لذا قد يكون من الملائم البحث عن حل بديل يعين الوزارة على تقديم خدمة جيدة للمبتعثين على أسس مستقرة ودائمة.
إن الكثير من الشركات والمؤسسات العامة، وبالذات في العالم الغربي، تنبهت في السنوات الأخيرة إلى آلية جديدة لتقديم خدمات أفضل لعملائها بتكلفة أقل وجودة عالية. وتعرف هذه الآلية بأسلوب إسناد تأدية أجزاء من الخدمة Outsourcing إلى أطراف أخرى خارج المنشأة وربما خارج النطاق الجغرافي لأعمالها. وهناك أمثلة كثيرة أصبحت مألوفة على مستوى العالم في مجالات الخدمات المالية، السفر والسياحة، الخدمات الطبية، صيانة الحواسب الآلية، المبيعات عبر الهاتف، وغيرها.. إذ قد يكون موقع الشركة التي تبيع الخدمة في وسط الولايات المتحدة أو أوروبا بينما المتعامل معك على الطرف الآخر من الهاتف يقبع خلف مكتبه في الهند أو في دولة أخرى في شرق آسيا. ويعود الفضل في هذا النمط الجديد لإدارة الأعمال إلى القفزات الكبيرة التي شهدها قطاع الاتصالات خلال العقد الماضي.
تلك التجارب الناجحة في تقديم الخدمة عبر القارات تدعونا للتفكير في محاكاتها في موضوع بحثنا وهو علاج أسباب شكاوى طلابنا المبتعثين في الخارج. لماذا يا ترى لا نسلخ من الملحقيات في الخارج الخدمات المالية التي تقدمها للمبتعثين ونسند تأديتها Outsourcing إلى وحدات أو مكاتب تؤسس في وزارة التعليم العالي في الرياض تتولى تحويل مستحقات كل مبتعث إلى حسابه مباشرة بشكل منتظم دون الحاجة إلى تمرير هذه الخطوة عبر الملحقية أو غيرها؟ وكذا الحال بالنسبة إلى الرسوم الدراسية المستحقة للجامعات, لقد تطورت الخدمات المصرفية في المملكة، وأصبحت التحويلات المالية بين حساب وآخر حول العالم لا تستغرق أكثر من 48 ساعة, وربما أقل من ذلك بكثير، ومن ثم أصبحت هناك فرص لإدارة بعض من أعمالنا بأسلوب جديد لم يكن متاحاً من قبل.
إن التحول المقترح في مركز تقديم الخدمات المالية للمبتعثين من الملحقيات إلى الرياض لا يتطلب جهازاً كبيراً من الموظفين، بل المطلوب عدد محدود من الشباب المؤهلين الذين سبق أن تلقوا تعليمهم في الدول التي سيسند إليهم متابعة صرف مستحقات المبتعثين إليها، ووسائل جيدة كافية للاتصال على مدار الساعة بالهاتف، الفاكس، والإنترنت مراعية فوارق التوقيت. أما المهمة التي ينبغي على ذلك الفريق إنجازها فهي تزويد بعض البنوك المحلية في منتصف كل شهر ميلادي بقائمة تضم أسماء المبتعثين وأرقام حساباتهم، وأخرى بأسماء الجامعات، وأرقام حساباتها، الرسوم المستحقة، وتاريخ استحقاقها. وهي كما ترون مهمة جد ميسرة وذات طابع متكرر إلا أنها تتطلب إشرافاً جيداً، ودقة في العمل، ومتابعة تلقائية للتثبت من وصول المبالغ إلى أصحابها.
إن صرف مستحقات المبتعثين ورسوم جامعاتهم بشكل مباشر عن طريق البنوك المحلية قد يشكل خياراً جيداً لوزارة التعليم العالي ضمن جهودها المتتابعة لتطوير إدارة برنامج الابتعاث، إذ ستعالج تلك الآلية أحد الأسباب الرئيسة لقلق المبتعثين وشكواهم، كما ستوفر على جميع الأطراف الكثير من الوقت المهدر في المراجعات والاتصالات. وأحسب أن الملحقيات الثقافية في الخارج سترحب بتلك الخطوة إذ ستمنحها الفرصة للتفرغ لعملها الأساس, وهو الإشراف الأكاديمي.