"الآتو ثانية" وعصر ما بعد اقتصاد المعرفة

يخطئ مَن يظن أن "الفيمتو ثانية" هي آخر المطاف لتحديد وحدات قياس الزمن متناهي الدقة، فالطريق مازال مفتوحاً مع مطلع القرن الحالي للوصول إلى المحطة السـابعة في قياس الزمن الدقيق التي يطلق عليها "الآتو ثانية"
Atto-Second - وهي تُعد حتى الآن ـ أقل وحدة قياس زمنية معروفة وتقاس بجزء من المليار من المليار من الثانية الواحدة.
وللتوضيح أكثر فقد سبقت هذه المحطة ست محطات زمنية أكبر أمكن للإنسان إدراك معناها ومغزاها، والتعامل معها بنجاح، وأسهمت تلك المعرفة في الدخول في آفاق جديدة لخير البشرية. المحطة الأولى في قياس قطار الزمن هي: الثانية، وهي قياس نبض قلب الإنسان، فالإنسان ينبض في المتوسط 60 نبضة في الدقيقة أي نحو نبضة واحدة في الثانية الواحدة.
أما المحطة الثانية فهي المللي ثانية التي يعرفها تماماً كل من يمارس رياضة السرعة بالسيارات في سباقات الفورميولا وغيرها وهم يتنافسون لكسر حاجز الألف جزء من الثانية وقد أمكن أخيراً تصوير ذلك بالكاميرات الثابتة. وفي المحطة الثالثة لقياس الزمن بالميكرو ثانية يتعامل العسكريون معها بحذر شديد أثناء المناورات والتدريب العسكري حيث يدركون خطورة الزمن اللازم لانفجار فتيل الديناميت وهي في حدود 24 ميكرو ثانية أي 24 جزءا من المليون ثانية.
وإذا كان هناك إدراك محسوس للزمن في المحطات الزمنية الثلاث الأول فإن المحطات الثلاث التالية تحمل نوعاً من الغموض وعدم الفهم لدى العامة على الرغم من كونها أحد المسلمات المعتمدة لدى العلماء والتقنيين معاً، بل ينظر إليها باعتبارها تجسيداً واضحاً لعصر (اقتصاد المعرفة) الذي يعيشه العالم في وقتنا الراهن، فاقتصاد المعرفة هو المحرك للإنتاجية والتنمية الاقتصادية باعتماده البحث والتطوير والتعليم والتدريب والبنية المعلوماتية مؤشرات للقياس.
كانت البداية، في مطلع القرن الماضي مع إعلان عالم الرياضيات المعروف ألبرت آينشتين نظريته النسبية، حيث أسهب في توضيح نسبية الزمن باعتباره البعد الرابع المحدد لماهية الأجسام متناهية الكبر وأيضاً الجسيمات المتناهية الصغر، وظهرت فيما بعد تطبيقات لهذه النظرية في العديد من الجوانب الهندسية والتقنية والطبية وغيرها نتيجة التطور المتسارع في أفرع الفيزياء الذرية والنووية والإلكترونية والبلازما والموائع وغيرها وأصبح لزاماً على العلماء البحث عن وسيلة لتحديد (الزمن) الذي يتم فيه عمليات التحول (اللامرئية) في الذرة ونواتها وما تحمله من جسيمات تحت نووية. ومن ثم اعتبرت المحطة الرابعة، محطة النانو ثانية والتي تتعامل مع زمن يقدر بجزء من المليار من الثانية هي أولى محطات علماء التقنيات الحديثة في مجال الإلكترونيات والاتصالات وما إليها، فيما اعتبرت المحطة الخامسة، محطة البيكو ثانية محطة علماء المياه الذين يهتمون بماهية الرابطة بين جزيء الهيدروجين في الماء وزمن انفصال الجزيء وإعادة بنائه مرة أخرى في بضع من البيكو ثانية أي جزء من المليون مليون من الثانية. أما المحطة الزمنية السادسة فهي عن الفيمتو ثانية (جزء من المليون مليار من الثانية) فقد فتحت آفاقاً جديدة عن استخدامات الليزر، خاصة في المجالات الطبية، وشهدت مولد علم كيمياء الفيمتو على يد الدكتور أحمد زويل صاحب جائزة نوبل وأحد أهم العلماء العرب المسلمين في نهاية القرن الماضي.
ولا شـك أن التقدم المستمر والمتنامي في أبحاث أشعة الليزر فوق القصيرة Ultra-Short والاستخدامات المتطورة للكاميرات الإشعاعية فائقة السرعة Streak Camera سيسهمان في قياس الزمن لمدى الآتو ثانية، وسيؤدي إلى تطوير علوم فيزياء وتقنيات الآتو وقياس زمن الحركة داخل الذرة وتحديد الزمن الذري Atomic Time للتغيرات التي تحدث بها وتطبيق ذلك في مجالات علوم الآتو البيولوجية Atto-Biosciences وبالتالي يمهد الطريق للدخول بقوة إلى عصر ما بعد اقتصاد المعرفة.
وفي الختام، نشير إلى أن قياس (الزمن) كان هو الشغل الشاغل للإنسان منذ بدء الخليقة، وإذا كانت الآتو ثانية هي المحطة السابعة لقياس الزمن متناهي الدقة فهي ليست بالضرورة المحطة الأخيرة، وستكون ـ بإذن الله ـ فاتحة خير لبداية عصر جديد على البشرية يمكن أن يطلق عليه عصر ما بعد اقتصاد المعرفة.
ونتذكر في هذه الأيام المباركة آيات كريمة من كتاب الله العزيز في سورة النمل في حديث بين نبي الله سليمان واثنين من جنوده، حيث طلب منهما أن يأتيا بعرش ملكة سبأ فقال الأول بأن يأتي به قبل أن يقوم نبي الله من مكانه، وقال الثاني سيأتي بالعرش قبل أن يرتد إلى سيدنا سليمان طرفه .. والدلالة من هذه الآليات هي نظرة كل منهما إلى (الزمن) وقياسه. فالحالة الأولى تعني للجن زمناً في حـدود بضع ثواني بينما الحالة الثانيـة تعني للذي عنده علم من الكتاب زمناً قد يصل إلى بيكو ثانية أو ربما آتو ثانية والله أعلم. مع العلم أن المسافة بين بيت المقدس ومملكة سبأ باليمن ذهاباً وإياباً تتجاوز خمسة آلاف كيلومتر. وصدق الله العظيم حيث قال: قَالَ يَاأَيُّهَا المَلَؤُاْ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ(38( قَالَ عِفْريتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ(39( قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ(40(. صدق الله العظيم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي