تفاصيل جديدة للكارثة الإنسانية في العراق
<a href="mailto:[email protected]">drashwan59@yahoo.com</a>
لم يكن أحد في الإدارة الأمريكية التي اتخذت قرار شن الحرب على العراق وغزوه عسكرياً في آذار (مارس) 2003, ولا بين القيادات العراقية التي شجعت ذلك القرار ولا حتى بين المعارضين لهذه الحرب من مختلف الحكومات والحركات السياسية والشعبية على مستوى العالم, يتصور النتائج التي أفضت إليها تلك الحرب على المستوى العراقي الداخلي أو المستويين الإقليمي والدولي. وقد أفاضت تقارير ودراسات كثيرة أعدت ونشرت خلال الأعوام السابقة التي تلت غزو العراق واحتلاله في شرح وتحليل تلك النتائج الخطيرة على هذه المستويات الثلاثة، وانتهى معظمها إلى أن الغالبية الساحقة من تلك النتائج كانت – ولا تزال – ذات طابع سلبي يصل إلى حد الكوارث في كثير من الأحيان.
وآخر تلك الكوارث التي أفضى إليها غزو العراق واحتلاله على المستوى الداخلي العراقي وأظهرتها دراسة علمية غربية نشرت قبل يومين فقط تتعلق بأغلى ما في العراق بل وما في الحياة كلها، وهو أرواح العراقيين التي مثلت الثمن الأول والأفدح الذي كلفه الغزو والاحتلال لهذا البلد الشقيق. فالدراسة أعدتها المجلة الطبية البريطانية المعروفة "لانسيت" وبمشاركة وتمويل من كل من معهد ماسشيوتيس للتكنولوجيا الأمريكي الأكثر شهرة على مستوى العالم وجامعة جون هوبكنز الأمريكية أيضاً, التي تحتل مكاناً متقدماً ضمن أفضل الجامعات الأمريكية والعالمية، وتعد الثانية من نوعها بعد الدراسة الأولى التي نشرت في تشرين الأول (أكتوبر) 2004 وتناولت الموضوع نفسه، أي "التكلفة البشرية لغزو العراق واحتلاله". وحملت الدراسة التي قام بتنفيذها باحثون من المؤسسات البريطانية والأمريكية الثلاث بتعاون مع بعض الباحثين من جامعة المستنصرية في بغداد مفاجأة حقيقية أخذت شكل الكارثة الإنسانية فيما يخص تلك التكلفة البشرية التي يدفعها العراقيون منذ غزو بلادهم ووقوعها تحت الاحتلال.
ولم تعتمد الدراسة في تقديرها لتلك التكلفة البشرية للغزو والحرب على إحصاءات فعلية مباشرة لحصيلة الضحايا لاستحالة القيام بذلك في ظل الظروف الأمنية والسياسة والاجتماعية التي يمر بها العراق، بل إنها اعتمدت منهجاً علمياً بديلاً يحظى برسوخ علمي دولي يقوم على تقدير استقرائي من مسح عشوائي لأكثر من 1800 أسرة عراقية تضم قرابة 13 ألف فرد وتمثل جميع أطياف المجتمع العراقي وتوجد في كل المحافظات العراقية الـ 18 ما عدا اثنتين. وتعد النتيجة الأولى للدراسة التي تفتح الباب بعدها لتفاصيل الكارثة الإنسانية في العراق هي حقيقة ارتفاع معدل الوفيات فيه من 5.5 فرد لكل ألف نسمة سنوياً قبل الغزو الأمريكي إلى 13.3 فرد لكل ألف خلال فترة الاحتلال المستمرة حتى اليوم. وعلى الرغم من إقرار الدراسة بأن فترات الحروب تعرف ارتفاعاً في ذلك المعدل على مستوى العالم، إلا أنه في الحالة العراقية كان أعلى بشكل ملحوظ وأكثر خطورة من حالات الحروب الأخرى. ويأتي الرقم الثاني الخطير في الدراسة, الذي يعطي بعداً إجمالياً آخر للكارثة العراقية، وهو أن عدد الوفيات في العراق خلال الفترة منذ الغزو وحتى نهاية تموز (يوليو) 2006 بلغ نحو 655 ألف شخص توفوا لأسباب ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة بحالة الحرب الدائرة فيه بما يمثل نحو 2.5 في المائة من عدد سكان العراق البالغ نحو 27 مليون نسمة.
أما تفاصيل الكارثة الإنسانية في العراق الناتجة عن الغزو والاحتلال فهي كثيرة. فهناك أولاً حقيقة أن نحو 601 ألف شخص ممن توفوا بعد الاحتلال قد قتلوا نتيجة أعمال العنف التي سادت العراق أثناءه، أي بنسبة تقارب 92 في المائة من العدد الإجمالي للمتوفين في تلك الفترة. وضمن هذا العدد الهائل لضحايا الحرب يظهر رقم آخر في الدراسة يحدد المسؤولين عن قتلهم، فتظهر هنا قوات التحالف الغربي بقيادة الولايات المتحدة التي تحتل الموقع الأول في المسؤولية بقتلها 31 في المائة من هؤلاء الضحايا، أي نحو 186 ألف عراقي من إجمالي من قتلوا أثناء الاحتلال، وتأتي بعدها جهات وصفتها الدراسة بأخرى تتحمل المسؤولية عن قتل 24 في المائة من هؤلاء بعدد يصل إلى نحو 144 ألف شخص، ثم يأتي أخيراً العدد الأكبر من هؤلاء الضحايا وبلغ 270 ألف قتيل بنسبة 45 في المائة منهم لم يتم التعرف بدقة على الجهات المسؤولة عن قتلهم. وتوضح الدراسة في عرضها للأسباب المباشرة لمصرع هذا العدد الهائل من العراقيين أن النسبة الأكبر منهم قد قتلت بإطلاق النار عليهم (نحو 56 في المائة منهم) في حين أن عدد ضحايا السيارات المفخخة قد تساوى مع ضحايا الغارات الجوية التي شنتها قوات التحالف وبلغ في كل حالة منها نحو 78 ألف شخص بنسبة 13 في المائة من إجمالي عدد القتلى. أي أن المعنى المباشر لهاتين النتيجتين الأخيرتين هو أن المسؤولية الرئيسية المحددة والمعروفة حسب الدراسة عن النسبة الأكبر من الضحايا في العراق تقع على كاهل قوات الاحتلال الأجنبية بقيادة الولايات المتحدة، وأن عدد من سقطوا ضحايا الإرهاب بفعل السيارات المفخخة قد تساوى مع عدد من قتلتهم طائرات تلك القوات، فلا فارق بين الطرفين في هذه المسؤولية بغض النظر عن أية دعاية تبث هنا أو هناك.
إن النتائج الكثيرة التفصيلية لهذه الدراسة المهمة التي قام بها باحثو وخبراء تلك المؤسسات العلمية والأكاديمية الأمريكية والبريطانية الرفيعة تؤكد الحجم الهائل للكارثة الإنسانية التي يمر بها العراق نتيجة للاحتلال. ولن يكتمل مشهد تلك الكارثة التي تبدو أكبر حتى من النتائج التي أظهرتها الدراسة سواء بإجراء دراسات أخرى حول عدد ونسبة العراقيين الذين اضطروا إلى الهجرة من بلدهم للخارج بسبب حالة الفوضى والعنف التي تجتاحه، حتى يمكن معرفة العدد الحقيقي الذي نقصه الشعب العراقي خلال الاحتلال من أبنائه سواء بالقتل أو بالهجرة الإكراهية. ولكي يمكن للمجتمع الدولي العاجز حتى الآن عن تقديم أي مساعدة حقيقية للشعب العراقي لإنهاء مأساته أن يتعرف على الأقل على حجم تلك المأساة، فعليه أن ينفذ التوصية الأخيرة التي تضمنتها الدراسة بإنشاء مؤسسة دولية مستقلة تسعى وفقاً لمعاهدات جنيف والقواعد العامة للقانون الدولي الإنساني نحو تحديد ملامح الكارثة العراقية بدقة من زواياها كافة، حتى تتوافر المادة الضرورية لهذا المجتمع الدولي لمساعدة العراق إذا ما قرر يوماً ما أن يشرع في ذلك.