حوادث المعلمات القاتلة .. أما من حل؟!

تعد حوادث السيارات التي تصيب المعلمات وتودي بحياتهن، أو تتركهن بين الموت والحياة من أبشع الظواهر التي تصيب المجتمع في الصميم، وتكون سببا في تشتيت العائلات، وتيتم الأطفال، ولا يكاد يمر أسبوع دون أن تنقل لنا الصحف خبراً مفجعاً عن احتراق أو موت وإصابة مجموعة من المعلمات وهن ذاهبات إلى، أو عائدات من أماكن عملهن، التي تبعد عادة مئات الكيلو مترات عن مقار إقامتهن، وتضطرهن المسافات البعيدة إلى مغادرة منازلهن في الهزيع الأخير من الليل.
ولعل شبح الحادثة الأخيرة التي وقعت لمجموعة من المعلمات في محافظة القويعية صباح يوم الثلاثاء الثالث من رمضان، وهن في اتجاه مدرسة الخروعية التي يعملن بها، وأودت بحياتهن احتراقا مع سائق السيارة التي تقلّهن، مما اضطر إلى جمع بقايا رفاتهن، وتشييعهن في مشهد مثير للحزن، ما زال يخيم أثره على نفسيات ومنازل المعلمات اللاتي يعملن في القرى والهجر البعيدة عن منازلهن، وكأني بكل معلمة، مع كثرة هذه الحوادث وتكررها وبشاعتها، قد أضحى هاجسها الوحيد هو التفكير فيما إذا كانت ستعود إلى منزلها وأطفالها أم لا من رحلة الموت التي ستستمر معها يوميا طيلة العام الدراسي؟
تقول الإحصائيات إن نحو 150 معلمة توفين خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة بسبب الحوادث، فضلا عن 600 معلمة تعرضن لإصابات بدنية تركت بعضهن حبيسات الإعاقة الدائمة، ويبدو أن هذه الأرقام ستزداد بازدياد الحوادث ما بقيت مشكلة نقص المعلمات في المراكز والقرى البعيدة، مقابل وفرة أعدادهن في المدن، حيث توجد الجامعات والكليات، كإحدى النتائج السلبية لتركيز الجامعات والكليات في المدن والمناطق الرئيسة، وتسببها، بالتالي، في زيادة الهجرة السكانية إلى المدن، وسيسهم في زيادتها أيضا، كون التعليم هو المتنفس الوحيد الذي تجد فيه المرأة عملاً لا يواجه بالمناوأة والمنع، حتى لو كان ذلك العمل بعيداً عن مظنة المحاذير الدينية، كعمل المرأة في بيع المستلزمات الخاصة ببنات جنسها، وسيزداد الإقبال على العمل في مجال التعليم مع تزايد الأعداد الكبيرة من الخريجات اللاتي تدفع بهن الجامعات والكليات والمعاهد كل موسم، ويتكدّسن داخل البيوت وقلوبهن متعلقة بالأمل في فرصة عمل تأتي بعد انتظار سنوات طويلة، حتى لو كان ذلك بجانب صخرة في أحد الأودية التي يخيم عليها شبح الموت.
لقد نشرت الصحف يوم الخميس الماضي قوائم طويلة بأسماء 2660 معلمة صدرت قرارات وزارة التربية والتعليم بتعيينهن على المستوى الأول في سلك التعليم في مناطق نائية، وقليل من الصحف من قرن أسماء المعلمات بأسماء القرى والهجر التي جرى تعيينهن فيها، حيث سيندهش من قدر له التأمل في تلك الأسماء أمام تنوعها وغرابتها وكثرتها وبعدها، ويكاد يجزم بصعوبة الوصول إليها، خاصة إذا كان بعضها لا تربطه طرق معبدة بأقرب المدن إليه، كتلك الطريق التي قالت المعلمات إنها تسقط الحمل من وعورتها، وكثير من أولئك المعلمات من سيشغلها التفكير في كيفية الذهاب والعودة، وما يكتنف ذلك من مكابدة ومشقة، عن الاستمتاع بفرحة وجود الوظيفة، وسيطاردها شبح الحوادث في غدوها ورواحها. إذا المشكلة قائمة، وستزداد وتكبر، ما بقيت الحاجة قائمة لمعلمات في المناطق النائية، وحاجة الخريجات إلى الوظيفة، واكتفاء مدارس المدن والمحافظات القريبة من المعلمات، بل ووجود فائض في بعض مدارس المدن تسبب فيه الضغط والإلحاح في التعيين أو النقل إلى المدن.
من الناحية الأخرى فإنه ليس بالإمكان انتقال أسرة المعلمة للعيش معها في المنطقة النائية، كما يتعذر عليها هي الإقامة بمفردها في تلك المنطقة، فضلا عن تعذر مرافقة زوجها، إن كانت متزوجة، أو أحد محارمها لها في الإقامة، ومن ثم يتعين علينا جميعا مواجهة هذه المشكلة التي خلقتها الظروف والتكوين الاجتماعي والالتزام والحاجة، وعدم التنصل من مسؤوليتنا ودورنا فيها، سواء كان هذا الدور مباشراً أو غير مباشر، ويجب أن تتضافر الجهود وتتكاتف في صورة ندوات وأبحاث اجتماعية تشمل شريحة كبيرة من المعلمات أنفسهن حول رؤيتهن للمشكلة, وكيفية الخروج منها، أو تخفيفها بما يضمن المحافظة على كرامتهن وأرواحهن على أن يشمل الاستقصاء المعلمات اللاتي تعرضن لحوادث وبقين على قيد الحياة من حيث رؤيتهن لكيفية وقوع الحوادث وأسبابها، ومدى إمكانية معالجة الأسباب أو تلافيها، أو التقليل منها.

ما أهم الأسباب؟
يؤخذ من بعض ما نشرته الصحف قريبا من معلومات حول أسباب وقوع الحوادث أن السرعة تأتي في الدرجة الأولى، يليها انفجار الإطارات، ثم عدم انتباه السائق، وإذا صح أن هذه الأسباب هي ما يجلب الحوادث فإن بالإمكان القضاء عليها أو تخفيفها، فالسرعة يمكن مراقبتها بواسطة المرور في نطاق المدن، ودوريات أمن الطرق في المناطق الأخرى، كما أنه يمكن تحديد نطاق السرعة لسيارة نقل المعلمات بربط عداد السيارة عند سرعة معينة لا يستطيع تجاوزها سائق السيارة، وهو أمر ممكن فنياً، وبالنسبة للإطارات فإنه يمكن التشديد على فحصها قبل منح الترخيص، والتأكد من أنها من الأنواع الملائمة للسرعة والحمولة والطقس، مع إلزام أصحاب السيارات بفحص دوري سنوي، وليس كما يجري عليه العمل حاليا، حيث يرتبط الفحص بانتهاء رخصة السيارة، أو عند نقل ملكيتها فقط. أما عدم انتباه السائق فهذه مشكلة يمكن معالجتها بالتوعية والتحذير من الحوادث، وأنها إذا وقعت فسيكون الجميع ضحيتها بمن فيهم السائق.
وأضيف "من عندي" إلى تلك الأسباب أن من الملاحظ أن غالبية السيارات المستخدمة لنقل المعلمات هي سيارات قديمة ومتهالكة، ولا تتوافر فيها وسائل السلامة الضرورية، خاصة في سيارات تقطع مسافات طويلة يوميا في طرق بعضها غير معبد، كما أن السائق وحتى الركاب يجهلون استعمال وسائل السلامة، إن توافرت، أو يتجاهلونها. ولعلي أتذكر وأذكِّر بحادثة وقعت لمعلمات في منطقة الرياض قبل نحو سنتين، كانت نتيجتها بشعة، أسهم فيها كون السائق قد أزال بعض المقاعد ووضع بدلا منها سجادة على أرضية السيارة كي ترتاح عليها المعلمات، أو يضطجعن في المسافات الطويلة. وسبب آخر هو أنه يسيطر على هذه الخدمة العمل الفردي والبدائي البعيد عن التنظيم والمهنية والالتزام، فتجد أن صاحب السيارة غالبا هو الذي يقودها، وتجده مرتبطاً بعمل آخر، ربما يكون وظيفة حكومية، ما يدفعه إلى اختصار الوقت بزيادة السرعة، إضافة إلى عدم أخذ الحد الكافي من الراحة والنوم بالنسبة لبعض الرحلات التي تبدأ قبل الفجر.

ما الحل الممكن؟
لا أحد يمتلك حلا جذريا ناجعا وسريعا، بيد أن الكل من الجهات ذات العلاقة كوزارة التربية والتعليم، وإدارات المرور وأمن الطرق، ووزارة النقل، وحتى أصحاب السيارات أنفسهم والمعلمات يعد مسؤولا مسؤولية تضامنية أمام الله والوطن والضمير عما يحدث من إهمال وتسيب في هذه الخدمة، وتركها دون ضبط وانضباط وتنظيم، وعدم القيام بما يمليه عليهم الواجب، عدا ما نشهد لهم به من المبادرة والمشاركة في إقامة صلاة الميت كلما وقع حادث أودى بأرواح معلمات.
إن الموضوع يحتاج، كما ذكرت، إلى تدارس وتناوله بالبحث في ندوات وأبحاث معمقة، وإشراك خبراء ومتخصصين، وكل من يعنيه الأمر في بحثه وتلمس الحلول له، بما في ذلك شرائح من المعلمات، وأنا على يقين أننا متى ما أخلصنا النية فلن نعدم وجود حل يزيل المشكلة أو يخفف منها على الأقل، ولا أدعي أنني أمتلك الحل، لكن مقترحاتي الآتية قد تكون من ضمن ما يطرح من أفكار للدراسة:
أولا: في سبيل إزالة المشكلة وحلها نهائيا:
ـ فتح مجال الاستثمار في إقامة مساكن للمعلمات المغتربات ملحقة بالمدارس التي يعملن بها، تسهم الحكومة فيها بمنح قروض ميسرة للمستثمرين، ومن المتوقع أن تكون تكلفتها غير مرتفعة لانخفاض تكلفة الأراضي في المناطق النائية، أو توفرها ضمن نطاق أرض المدرسة، وبالتالي فإن تكلفة الإيجار بالنسبة للمعلمة ستكون منخفضة قد يغطيها ما تدفعه المعلمة كأجرة للنقل حاليا.
ثانيا: في سبيل تحجيم المشكلة والتخفيف من آثارها:
ـ تشجيع الاستثمار في مجال النقل المدرسي بعامة، ونقل المعلمات بخاصة، بحيث تنشأ شركات وكيانات ذات إمكانات تستطيع ممارسة الخدمة بمهنية وانضباط مثل توفير سيارات ملائمة وسائقين مدربين، وصيانة جيدة.
ـ تشديد الرقابة على السيارات التي تعمل في هذا المجال، من حيث الملاءمة والتحمل ونوعية الإطارات، وتوافر وسائل السلامة الأخرى، مع ربط استمرار عملها وتراخيصها بإجراء الفحص عليها سنويا.
ـ التركيز على توعية أصحابها أو من يقودها بأهمية الالتزام بأنظمة المرور والسلامة، واستخدام وسائل الأمان، والمحافظة على الأرواح، وأخذ التعهد عليهم بذلك، مع جعل التأمين إلزاميا على هذا النوع من المركبات.
والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي