Author

منزلة العقل في الفكر الديني/ المسيحية

|
<a href="mailto:[email protected]">[email protected]</a> حينما نتحدث عن محاولات التوفيق بين الفلسفة والدين في المسيحية ينبغي التنبه من الخلط بين المسيحية في مراحلها الأولى وبين ما آلت إليه عقيدتها فيما بعد من تخريجات لاهوتية. المسيحية في بدايتها لم تكن تأملية وكانت الجماعة المسيحية الأولى تتألف من صيادي الأسماك والحرفيين والفلاحين والرعاة الذين كان همهم ينصب على زيادة التلاحم فيما بين الجماعة المؤمنة وشد أزر بعضهم بعضا روحيا وماديا. كانوا في غالبيتهم من الأميين الذين لا يفقهون شيئا في الفلسفة إلا أنهم يستجيبون بكل عواطفهم للمجازات والاستعارات والأمثال التي زخرت بها مواعظ المسيح مثل زنابق الحقل والخراف الضالة وربة البيت التي تبحث عن درهمها الضائع. كانت المسيحية في بداياتها تمثل إيمانا نقيا مستقلا عن النظر الفلسفي. ولكن بعد أن تأسست الكنيسة وانتظم السلك اللاهوتي وجد فقهاء المسيحية أنفسهم مرغمين على التفلسف للدفاع عن العقيدة في وجه خصومها وللبرهنة على صدق ما جاء به الكتاب المقدس في مقابل ما جاء في كتب الفلسفة. وبمرور الوقت بلور الفقهاء المتفلسفون مبادئ العقيدة المسيحية وحل اللاهوت محل الفلسفة التي فقدت استقلاليتها في العالم المسيحي وتحولت إلى مجرد ذراع للدين، أو كما يقولون خادمة مطيعة للعقيدة. مع بدء انتشار المسيحية كانت الإسكندرية قد خلّفت أثينا كمركز للإشعاع الفلسفي وصارت تشكل مركزا تلاقت فيه وتلاقحت مؤثرات الثقافة اليونانية بفلسفتها وعلومها والثقافات الشرقية بدياناتها وأساطيرها، ونتج عن هذا التلاقح الفكري مركب جديد هو الثقافة الهلينيستية. وكان مفكرو الإسكندرية من يهود ونصارى، الذين امتزجت عندهم النزعتان الدينية والفلسفية، هم أول من واجه وتصدى لإشكالية التوفيق بين العقل والدين. كانت الإشكالية التي حاول هؤلاء التصدي لها هي كيف يمكن التوفيق بين الدين الذي هو عقيدة موحاة تقتضي الإيمان وبين الفلسفة التي هي نظر عقلي يقتضي البرهان. وكان المفكر اليهودي فيلون الإسكندري رائد هذه الحركة التوفيقية من خلال تأويله الرمزي لنصوص التوراة. وكانت طريقة التأويل الرمزي معروفة عند الفيلولوجيين الإغريق شرحوا بها أشعار هوميروس وجعلوا منه بهذه الطريقة إرهاصا لكل ما جاء بعده من فلسفات. كما لجأ لها الرواقيون ليعطوا معنى لأساطير اليونان وعقائدهم الوثنية. وكان لهذا النهج التأويلي تأثيره لاحقا على المفكرين المسيحيين الذين حاكَوه في شرح العهد الجديد. كان فيلون يقف في تأويله للإلهيات عند حدود الشريعة لا يتعداها وحاول الاستعانة بالفلسفة لمجرد تبيان الحقيقة الدينية. وفي نظره أن الكتب السماوية تلجأ للرمز ضنا بالحقيقة على غير أهلها من السذج الذين نزلت فيهم الكتب المقدسة. استعمال الرموز والأمثلة التصويرية غرضها تقريب الحقائق إلى أذهان العامة الذين يأخذون بظاهر النص ويجدون فيه كفايتهم. أما الخاصة فيحاولون الغوص إلى جوهر المعنى عن طريق التأويل. وكان يرى أنه من الضروري تأويل النصوص التوراتية التي لو أُخذت حرفيا لأثبتت لله صفات لا تليق بجلاله مثل التجسيم أو الندم أو المشي أو الجلوس. الصفة الوحيدة التي نستطيع إثباتها لله هو أنه موجود لكننا لا نعرف طبيعة هذا الوجود ولا كيفيته. يصعب علينا تحديد صفات الله لأن كل ما نستطيع الوصول إليه لا بد أن يكون مما هو في نطاق العقل البشري المتناهي بما يتنافى مع صفات الله اللامتناهية. أما بالنسبة للمسيحية فقد اتصلت بالفلسفة منذ أن دخل فيه أناس ثقافتهم يونانية، وأول أولئك القديس بولس الذي كانت تربيته هيلينية وكانت كتابات سينيكا وإبيكتيتوس مألوفة لديه، ولذا تسربت إلى مواعظه بعض العبارات وطرق التفكير التي كانت رائجة عند الرواقيين، وهو أول من لاحظ إمكانية أن تكون المسيحية، كالرواقية، مذهبا كوزموبوليتيا عالميا لا تحده حدود العرق والجنس. لكن بولس كان معاديا للفلسفة ويرى أن الإيمان يكفي نفسه بنفسه. وجاء بعده الآباء اللاتين من أمثال تيرتوليان الذي كان عدوا للفلسفة ولم ير فيها إلا كفرا صراحا من مخلفات الوثنية ويقول إنها السبب وراء ما دخل المسيحية من ضلالات وبدع غنوصية. ومما أُثر عنه قوله إن العاطفة الدينية غريزة مرتكزة في النفس البشرية، كما يتبدى في أوقات الشدائد والمحن. وقد نشأ في المسيحية منذ بداياتها الأولى تياران متعارضان؛ أحدهما هذا الذي يحمل على الفلسفة متهما إياها بأنها تتعارض مع حقائق الدين وأنها مصدر كل البدع والهرطقات، وتيار آخر لا يرى تعارضا بينهما ويرى أن الفلسفة تمهد السبيل للدين وأن الإيمان مكمل للعقل لا مبطل له لأن الحقيقة واحدة ومصدر الحقيقتين الدينية والفلسفية مصدر واحد وما يظهر بينهما من اختلاف إنما هو في العبارة دون الجوهر. فالفلسفة والدين كلاهما تعبير عن الحقيقة لكن طريقة التعبير تختلف من هذا عن ذاك. الوحي والعقل كلاهما من عند الله فمحال أن يتعارضا وما الوحي الإلهي إلا هاديا للعقل ومرشدا له. رأى هؤلاء أن الفلسفة تؤيد الإيمان وتقويه ولم يجدوا غضاضة في الاستعانة بها كوسيلة لدعم حججهم لإقناع الوثنيين، وكانوا يرون أن الحق ضالة المؤمن يتبعه أينما وجده، وأنه مهما تعددت سبله فهو في نهاية المطاف من عند الله، فالله هو الحق. والعقل هبة الله للإنسان منحه إياه ليستدل به على ألوهيته. وأول محاولة توفيقية جادة جاءت من عند مسيحيي الإسكندرية المستنيرين، من أمثال كليمنت الإسكندراني والقديس جوستين الشهيد وأوريغانوس الذي تأثر بمنهج فيلون وجاء مذهبه الفلسفي متناغما مع الأفلاطونية المحدثة، حيث إنه تتلمذ مع مؤسسها أفلوطين على يد أمونيوس ساكوس. وكانت الأفلاطونية هي المذهب المفضل عند هؤلاء وكانوا يعتبرونها أسمى الفلسفات وأقربها إلى الدين، خصوصا بعد أن أُلبست لاحقا لباس الأفلاطونية المحدثة. ومن الأفكار الأفلاطونية التي لاقت استحسانا لدى المسيحيين القول بعالم معقول فوق عالم الحس وإله خالق هو الخير ذاته، إضافة إلى الإشادة بالزهد والخلود والاتحاد بالله. بل لقد رأى أوريغانوس عند أفلاطون في محاورة طيماوس التي تتحدث عن أصل العالم ونشأته نظيرا لفكرة الخلق كما وردت في سفر التكوين، وذلك حينما يقول أفلاطون أن الله بطيبته شاء أن يخلق من مادة الهيولي هذا الكون. إلا أن أوريغانوس يعارض أفلاطون حينما يضع بإزاء الله مادة غير مخلوقة وجودها وجودا أزليا كوجوده. من المبادئ الأساسية في الفكر اليوناني استحالة الخلق من العدم، ولذلك كان أفلاطون وأرسطو يريان أن وجود الله والمادة (الهيولي) وجود أزلي متساوق وأن الله شكل المادة التي كان وجودها قديما كوجوده وغير متأخر عنه في الزمان. ويرد أوريغانوس بالقول إنه إذا أقر هؤلاء بقدرة الله على تنظيم المادة وتشكيلها فما الذي يمنعهم من الاعتراف بقدرته على خلقها من العدم دون ابتداء، كما جاء في سفر التكوين. الله أزلي وثابت في ماهيته وتدبيره، فهو يزاول قدرته ويجود بخيريته منذ الأزل، وهو ملك الوجود فلا يمكن أن يبقى بلا رعية. وكان الأفلاطونيون والفلاسفة عموما ينفرون من البعث لأنهم يعتبرون الجسم والمادة عنصرا رديئا ومصدرا لكل الشرور في هذا العالم وحياة الروح في الجسد سجن تتوق للهرب منه والاتحاد بالله. لكن أوريغانوس يرى أنه من غير العدل ألا يخلد الجسم مع الروح بعد أن كان آلتها في الخير والشر في هذه الدنيا. وكان يؤكد على الاستمساك بالعقيدة الدينية حينما تكون واضحة وصريحة أما ما عدا ذلك فإن المجال مفتوح أمام العقل ليفكر ويتدبر ويحلل، وما دامت أصول العقيدة لا تُمس فلا ضير من الأخذ بما يوافق الدين من حكمة اليونان وغيرهم من الوثنيين والانتفاع بها في الدفاع عن العقيدة وتوضيحها للمريدين. أما القديس أوغسطين، أحد قمم الفلسفة المسيحية، فإن الإيمان عنده ليس مجرد عاطفة عاطلة من أي سبب عقلي، بل هو حقيقة يتقبلها العقل. فلا بد للإيمان الصادق من التعقل. وما دام الإيمان يقتضي العقل فإنه لا ينفر من نقد العقل. بعد أن يحصل الإيمان تصبح مهمة العقل تأييد العقيدة وترسيخ الإيمان. والعالم عند أوغسطين ليس قديما بل محدث خلقه الله من لا شيء بمحض مشيئته وإرادته الحرة. ومن العبث أن نسأل ما كان يفعل الله قبل خلقه الخلق أو أين كان قبل أن يخلق العالم. إرادة الله قديمة وفعله قديم ولا يوجد قبل ولا بعد إلا في مخلوقاته. فلا الزمان ولا المكان أزليان. لقد وجد الزمان بوجود العالم لأن الزمان هو مقياس حركة الأشياء وقبل أن يخلق الله الأشياء لم توجد حركة وبالتالي لم يوجد زمان. كذلك لم يوجد المكان قبل الخلق إذ لا وجود للمكان خارج العالَم. ولا ينبغي أن نفسر وجود الله بمعنى أنه حال في مكان ما فهو سبحانه وتعالى في كل مكان ولكن دون أن يتموضع في مكان. كما أن علمه بما كان وما سيكون لا يعني سبق العلم والتنبؤ وإنما يعني أن الماضي والحاضر والمستقبل مهما كان بعيدا دائما حاضر كحضور التو واللحظة في علمه الذي لا يتجزأ ولا ينقسم ويحيط بكل شيء. ولا طائل من أن نسأل لماذا خلق الله العالم فإرادة الله ومشيئته هي العلة الوحيدة لوجود كل الأشياء وليس من علة فوقه تحدد فعله أو تحد من إرادته وقدرته. هذه المحاولات التوفيقية المبعثرة سوف يلملمها فلاسفة المسلمين لاحقا ويتعهدونها بالتنسيق لتنضج على أيديهم وينسجون منها نظاما فلسفيا متكاملا ومتماسكا. لقد انطلقت مسيرة الفلسفة والعلوم عند العرب لتكمل ما بدأه اليونان والمسيحيون بعد أن ترجموا أعمالهم إلى العربية. ومن المعروف أنه لما تحقق النصر للمأمون على الإمبراطور البيزنطي ميخائيل الثالث كان أحد شروط الصلح أن يبعث له خزائن مكتبة الأستانة التي كانت تضم من بين مقتنياتها كتاب بطليموس في الفلك والرياضيات الذي ترجمه العرب وصار عنوانه "المجسطي". ولا أدري لماذا لم ينتبه البابا بينيديكت إلى ميخائيل الثالث هذا بدلا من الإمبراطور البيزنطي الآخر الذي أشار إليه في خطابه؟ كما لا أدري لماذا لم ينتبه البابا إلى أن ما أنجزه العرب سيكون القاعدة التي تنطلق منها فلسفة التنوير العلمانية في أوروبا التي يتباهى بها؟ وهذا ما سنتطرق إليه في المقالة المقبلة.
إنشرها