رؤية مقارنة لظاهرة الإرهاب والعنف في العالم العربي (2 من 2)

<a href="mailto:[email protected]">drashwan59@yahoo.com</a>

استعرضنا في المقال السابق الأنواع المختلفة للجماعات ذات الطبيعة الإرهابية والعنيفة التي عرفها العالم العربي بمختلف دوله، كما سعينا إلى تقسيم تطور تلك الظاهرة إلى مراحل متعاقبة مرت بها وكان لكل منها خصائصه النوعية المختلفة، وعرجنا بعد ذلك على الأسباب والعوامل الرئيسية التي دفعت بقطاعات من الشباب العربي والمسلم إلى الانخراط في صفوف تلك النوعيات المختلفة من الجماعات التي تمارس العنف والإرهاب. ويبقى هنا لكي تكتمل تلك الرؤية المقارنة لظاهرة الإرهاب والعنف في العالم العربي أن نتطرق إلى مختلف التجارب التي خاضتها الدول العربية في مواجهتها.
الحقيقة أن العالم العربي قد عرف عديداً من الخبرات والدروس في مواجهة جماعات وحركات العنف والإرهاب ذات التوجه الإسلامي المتطرف التي أفضت في النهاية إلى القضاء عليها أو تقليصها بصورة كبيرة. ويمكن في هذا الإطار الحديث عن ثلاث تجارب رئيسية أدت إلى نجاح نسبي هي: التجربة المصرية, التجربة الجزائرية, والتجربة السعودية.
فأما عن مصر فهي تعد أقدم دول الشرق الأوسط والعالم العربي التي واجهت ظاهرة الإرهاب ذي التوجه الإسلامي المتطرف وذلك منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين وحتى النصف الثاني من تسعينيات القرن نفسه. وقد راوحت الأدوات التي تم استخدامها في تلك التجربة للمواجهة خلال هذه الفترة وتعددت الاستراتيجيات، إلا أنها ظلت بصفة رئيسية تعتمد على المواجهة الأمنية الصارمة في معظم الأوقات. وإضافة إلى الذراع الأمنية الطويلة التي استخدمت بكثافة في مواجهة جماعات العنف وفي كثير من الأحوال بما يتناقض مع القواعد القانونية والحقوق الأساسية للإنسان، فقد تم استخدام المؤسسات الدينية والعلماء المسلمين المعتدلين في مراحل عديدة من أجل تصحيح المفاهيم والتفسيرات المتطرفة الخاطئة التي سادت في داخل تلك الجماعات. كذلك فقد تم اللجوء في أحوال عديدة إلى التعبئة الإعلامية الواسعة من خلال مختلف وسائل الإعلام والفنون من أجل حشد الرفض الشعبي لأفكار وممارسات العنف وتأييد المواجهة الحكومية له. وإلى جانب كل تلك الوسائل والأدوات، فإن أحد أبرز العوامل الحاسمة التي أوقفت العنف وأفكار التطرف الإسلامي تماماً في مصر كان هو إعادة نظر قيادات الجماعات الإسلامية المتطرفة أنفسهم في أفكارهم وممارساتهم وعودتهم تماماً عنها ونقدهم القاسي والعلني لها، وهو التوجه الذي ساعد على نموه ووصوله إلى الاكتمال المساعدة الأمنية الكبيرة التي قدمتها له أجهزة الدولة المعنية. وقد مثلت تجربة المراجعات الفكرية للجماعة الإسلامية المصرية، وهي التي قامت بأكثر من 95 في المائة من عمليات العنف والإرهاب في البلاد، وبعدها مراجعات جماعة الجهادية الآخذة في التبلور النهائي حالياً، تجربة ذات أهمية حقيقية في التراجع عن العنف والإرهاب فكراً وممارسة بما تستحق دراسة عميقة واستخلاصا دقيقا لدلالاتها.
وتأتي بعد ذلك التجربة الجزائرية، حيث تعد الجزائر الدولة العربية الأكثر تعرضاً ومعاناة من الإرهاب والعنف خلال الفترة المشار إليها، حيث زاد عدد ضحاياهم على 100 ألف قتيل وعشرات الآلاف من الجرحى, فضلاً عن الخسائر المادية الفادحة. وقد اندلع العنف في الجزائر في بداية عام 1992 بسبب الأزمة السياسية الكبيرة التي تلت حصول الجبهة الإسلامية للإنقاذ على غالبية مقاعد البرلمان في الجولة الأولى من الانتخابات التي جرت في نهاية عام 1991، حيث رفضت بعض القطاعات الأمنية والعسكرية والسياسية في الدولة تلك النتائج وألغت الانتخابات وقامت بما يشبه الانقلاب الداخلي في البلاد. وقد استخدمت الدولة في الجزائر لفترة طويلة امتدت حتى عام 1997 المواجهة الأمنية والعسكرية وحدها تقريباً كأداة رئيسية لمواجهة ظاهرة العنف والإرهاب وهو ما فاقم منها كثيراً. وبدءاً من نهاية عام 1997 اتجهت الدولة إلى الحلول السياسية للأزمة وأجرت بعض المفاوضات مع بعض الجماعات التي انخرطت في المواجهات المسلحة دون أن تكون منحازة فكرياً لذلك، وهو ما أدى إلى تراجع واضح في ممارسات العنف والإرهاب وحصار أكبر للجماعات المتطرفة ذات التوجهات العنيفة والإرهابية, ثم تزايد لجوء الدولة الجزائرية منذ تولي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة رئاسة الدولة إلى الحلول السياسية وبصفة خاصة إلى مبادرات وقوانين للصلح والوئام الوطني والعفو عن عديد من الأفراد الذين تورطوا في ممارسات العنف والإرهاب، مما أدى إلى انحسار تلك الممارسات بصورة واضحة تماماً في الجزائر اليوم.
أما المملكة العربية السعودية فتعد التجربة العربية الثالثة في مجال مواجهة ظاهرة العنف والإرهاب، حيث إنه على الرغم من أن أولى العمليات الإرهابية الكبيرة التي واجهتها المملكة تمت عام 1979 عندما احتلت مجموعة إسلامية مسلحة الحرم المكي واحتجزت عددا كبيراً من الرهائن، وأنها واجهت في منتصف التسعينيات بعض عمليات العنف المتوسطة، فهي لم تعرف ظاهرة العنف والإرهاب بصورة منتظمة ومتواصلة سوى بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في أيار (مايو) 2003. وقد بدا واضحاً منذ البداية أن السعودية لم تكن تمتلك خبرة كافية لمواجهة تلك الظاهرة وبخاصة على الصعيد الأمني، إلا أنها استطاعت خلال فترة قصيرة الحصول عليها سواء محلياً أو عن طريق التعاون الإقليمي والدولي مع دول أخرى لها تجارب وخبرات في هذا المجال. وقد بدت التجربة السعودية حتى اليوم شبيهة بالتجربة المصرية في مراحلها الأولى في كثير من جوانبها وبخاصة في الاعتماد الرئيسي على المواجهة الأمنية مع الاستعانة المتأخرة بالوسائل الإعلامية والفنية. إلا أن ذلك لم يمنع السعودية من إضافة بعض الوسائل في المواجهة من أبرزها اللجوء إلى العفو المشروط عن المتطرفين الإسلاميين الهاربين الذين يقومون بتسليم أنفسهم للسلطات والتراجع عن ممارسات وأفكار التطرف والعنف، وكذلك الاستعانة ببعض العلماء الذين بالرغم من تشدد بعض آرائهم فقد رفضوا توجه بعض الجماعات لأفكار العنف والإرهاب وممارستها. وبالرغم من تلك الجهود الواسعة، فلا يمكن الحكم النهائي بعد على التجربة السعودية نظراً لقصر وقتها ولاستمرار وجود بعض قليل من جماعات وأفكار العنف والإرهاب قائماً فيها، ولعدم زوال العوامل الإقليمية والداخلية الرئيسية التي أدت إلى نشأة تلك الظاهرة فيها بالشكل التي تبدو عليه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي