تناقضات غربية في النظر لإدارة أزمة ما بعد سبتمبر
<a href="mailto:[email protected]">drashwan59@yahoo.com</a>
منذ بداية الأزمة الدولية الكبرى التي اندلعت منذ هجمات 11 من أيلول (سبتمبر) 2001 على واشنطن ونيويورك تراوحت الرؤى والتقديرات الإسلامية والعربية والغربية لطبيعتها والأسباب التي دفعت إليها والكيفية التي يجب أن يتعامل بها معها كل طرف فيها. وقد تناولنا في هذا المقام قبل فترة طويلة بعضاً من الرؤى الغربية بصفة خاصة للأزمة الدولية الراهنة، وركزنا فيها على تشخيص عدد من الكتاب والباحثين الغربيين لطبيعة الأزمة والأسباب والدوافع التي كمنت وراء اندلاعها. وهذه المرة سنحاول إلقاء بعض الأضواء على محور آخر مهم تناوله الكتاب والباحثون الغربيون في تعرضهم لأزمة ما بعد أيلول (سبتمبر) وهو الكيفية التي رأى بعضهم أنه يجب على الغرب التعامل معها بها.
وفي هذا السياق، فالعودة مرة أخرى إلى الباحثين أنفسهم الذين تعرضنا لرؤيتهم لطبيعة الأزمة وأسبابها لمعرفة تصورهم لكيفية التعامل الغربي معها ستساهم في استكمال التعرف على نماذج مهمة للرؤية الغربية لهذه الأزمة. ونذكر هنا بأن من مثل الجناح الأمريكي للرؤية الغربية في هذا المقام هما كل من صمويل هنتنجتون الأستاذ في جامعة هارفارد وفرانسيس فوكوياما الأستاذ في جامعة جون هوبكنز، واللذين عبر كل منهما عنها في مقالات وأحاديث صحافية عديدة عن رؤيته للأزمة فور نشوبها. ويمثل الجناح الأوروبي للرؤية الغربية هنا الجامعي الأيرلندي فريد هاليدي أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية وصاحب كتاب "ساعتان هزتا العالم" الذي صدر في نهاية عام 2001 غير مؤلفات أخرى عديدة ذات علاقة بالموضوع.
وقد بدا واضحاً الاختلاف بين ممثلي الجناحين الأمريكي والأوروبي في النظر إلى الكيفية التي يجب على الغرب التعامل بها معها. فبالنسبة إلى هنتنجتون، فهو بدا واضحاً بشأنها كل الوضوح كمفكر استراتيجي واقعي، حيث وضع خطة كاملة لما أسماه "دفاع الغرب عن نفسه" بالمعنى الاستراتيجي الواسع. وتبدأ الخطة بدعوته "القوى الغربية للولايات المتحدة وأوروبا إلى تحقيق اندماج سياسي واقتصادي وعسكري وتنسيق سياساتهم بحيث لا تستطيع دول تنتمي إلى حضارات أخرى استغلال اختلافاتنا". وإلى جانب ذلك يقول هنتنجتون "نحن بحاجة إلى مواصلة توسيع الاتحاد الأوروبي والناتو لضم دول غربية من وسط أوروبا، جمهوريات البلطيق، سلوفينيا، كرواتيا، والولايات المتحدة, بحاجة كذلك إلى تشجيع "غربنة" أمريكا اللاتينية". وحتى لا يفتح الغرب جبهات صراع إضافية فعليه حسب خطة الباحث الأمريكي "قبول روسيا كدولة محورية للأرثوذكسية، وقوة إقليمية رئيسية ذات مصالح مشروعة في تأمين حدودها الجنوبية، ودولة يستطيع التعاون معها في التعامل مع الإرهابيين الإسلاميين". أما على الصعيد التكنولوجي والعسكري فعلى الغرب حسب تلك الخطة المحافظة على تفوقه "على الحضارات الأخرى وكبح تطوير القوة العسكرية التقليدية وغير التقليدية للدول الإسلامية والصين". تبقى بعد تلك التفاصيل العملية قاعدة عامة في الخطة لابد من مراعاتها دوماً وهي أنه "يجب على الغرب المتعاضد بهذا الشكل أن يدرك أن التدخل في الشؤون الداخلية للحضارات الأخرى التي تتعرض فيها مصالحه الحيوية للخطر هو المصدر الوحيد الأشد خطورة للصراع العالمي المحتمل في عالم متعدد الحضارات".
أما فوكوياما فقد بدا في نظرته للكيفية التي يمكن ويجب على الغرب إدارة ومواجهة الأزمة بها أكثر عملية بل وعسكرية من هنتنجتون، فهو أقامها على خصائص ومخاطر ما يسميه "الفاشية الإسلامية" التي يرى أن الغرب يواجهها، حيث إن "التحدي الذي يواجه الولايات المتحدة هو أكثر من مجرد معركة مع مجموعة صغيرة من الإرهابيين، فبحر الفاشية الإسلامية الذي يسبح فيه الإرهابيون يشكل تحديا أيديولوجياً هو في بعض جوانبه أكثر أساسية من الخطر الذي شكلته الشيوعية"، بكل ما يعنيه ذلك من استعدادات عسكرية واقتصادية على الولايات المتحدة والغرب القيام بها تفوق ما كانت تعده لمقاومة هذه الشيوعية. وبعد أن يقارن ذلك العدو الجديد، أو "الفاشية الإسلامية"، بالشيوعية في اقتراحه لسبل مواجهتها، يبدو فوكوياما أكثر صراحة حينما يعاود مقارنتها بالنازية الألمانية في الحرب العالمية الثانية وما تم معها وبالتالي ما يجب أن يتم مع تلك "الفاشية" الجديدة، حيث يؤكد أنه "على الرغم من رغبة الناس في الاعتقاد أن الأفكار تعيش أو تموت نتيجة استقامة أخلاقياتها الداخلية فإن القوة لها شأن كبير، فالفاشية الألمانية لم تنهر بسبب تناقضاتها الأخلاقية الداخلية بل ماتت لأن ألمانيا احتلت وتحولت إلى أنقاض بفعل قصف جيوش الحلفاء. (...) وبالعكس إذا استمرت المواجهة العسكرية بشكل غير مؤثر فإن "الفاشية الإسلامية" ستحصل على مزيد من التأييد".
وبالانتقال إلى الجناح الأوروبي الذي يمثله هنا الجامعي البريطاني فريد هاليدي نرى أنه لم يطرح خطة تفصيلية استراتيجية للغرب أو لغيره، بل حرص على ألا ينطلق من منطلق ثقافي غربي حداثي محض رغم تمسكه الذي لا يتزعزع بالحداثة ومنطقها ونظرتها للأشياء، فهو رأى أن ثمة منظورا إنسانيا عالميا مشتركا يتكون من حاصل جمع القيم المتفق عليها عبر الثقافات المختلفة، ويشكل الأرضية الأكثر صحة لفهم الحدث ولإدانته ولتجاوز آثاره السلبية أو لحصرها على أضيق نطاق. وأكد هاليدي في هذا السياق على ضرورة تحلي السياسيين والمثقفين ببعض الرؤى المثالية من أجل إحلال واقع أكثر إنسانية في حياة البشر وتحدي المظالم التي تواجههم. ولتدعيم وجهة النظر العالمية ووجودها وفعاليتها على الأرض أعطى هاليدي وزناً كبيراً للميثاق العالمي لحقوق الإنسان وكذا لفكرة ودور الأمم المتحدة ومئات المعاهدات والاتفاقات الدولية التي انخرطت فيها الدول والمجتمعات بغض النظر عن ثقافاتها وأديانها. وإلى جانب كل ذلك، شدد هاليدي من أجل تجاوز الأزمة على ضرورة الارتكان على منظومة القيم الإنسانية العالمية الآخذة في الانتشار والتي تطالب بها كل المجتمعات وتعتبرها هدفاً يستحق النضال لأجله: مثل حقوق الإنسان، والحريات السياسية والفردية، والديمقراطية، والشفافية، والمحاسبة. وهنا توقف هاليدي عند دور المثقفين في نشر وتدعيم تلك الرؤية الإنسانية العالمية على حساب الرؤى القومية والدينية الضيقة، ويقصد بهم المثقفون في الجانبين: الجانب الغربي والجانب العربي الإسلامي. وفي هذا الإطار فهو رأى أن هناك أربعة أنواع من المثقفين هم الأهم لأداء ذلك الدور، وهم: المؤرخون ورجال الإعلام والأدباء ورجال الدين، والذين يحمل هاليدي كل فئة منهم مسؤولية نوعية تختلف بحسب دورها المهني والاجتماعي.