الإنسان قوام المجتمع
<a href="mailto:[email protected]">mdukair@yahoo.com</a>
كان موضوع مقالي في الأسبوع الماضي عن البنوك والمسؤولية القانونية، الذي أشرت فيه إلى ما يعانيه الناس من مشقة بالغة عند متابعة تحصيل حقوقهم الضائعة سواء عند تعاملهم مع البنوك أو مع جهات الاختصاص الأخرى كمؤسسة النقد وديوان المظالم والشرطة والمحاكم. وقد وجدت تجاوبا طيبا كريما من لدن أخي المحامي الدكتور باسم عالم، الذي كنت قد دعوته في ذلك المقال - مع بقية الإخوة المحامين في مدن البلاد كافة- إلى تخصيص جزء من جهودهم وأوقاتهم للعمل الخيري في نطاق عملهم. وتمنيت عليهم أن يبادروا إلى تكوين جمعية وطنية خيرية لحماية الحقوق ومقاضاة المعتدين. وأن يحتسبوا جهدهم كصدقة تطوعية ينالون بها الأجر والمثوبة من الله تعالى، وأنهم سيجدون – بحول الله تعالى - بركة هذا العمل في صحتهم وأموالهم بل في زيادة الإقبال على خدماتهم غير المجانية. وهم بذلك يسدون خدمة عظيمة لمجتمعهم، لأن ضمان الحقوق أمر أساسي لاستقرار المعاملات ونموها، وتقليل مخاطر عدم اليقين المرتبطة بمستقبل المعاملات الاقتصادية.
وتفضل سعادة أخي الدكتور باسم عالم بالتجاوب مع فكرة المقال، فبعث إلي برد كريم، رأيت أن أعرضه هنا نظرا لأهمية الموضوع، ولكي يتمكن بقية الإخوة القانونيين وأصحاب مكاتب المحاماة ممن لديهم استعداد أن ينظروا في الأمر ويثروه فكرا وتنفيذا. جاء في خطاب سعادة أخي الدكتور باسم عالم ما يلي:
"أوافق سعادتكم على كل ما ذكرتموه من إشكاليات نعاني منها, والتي تقف عائقا أمامنا في سبيل مواكبة التطور اللازم للأمة والمجتمع. إلا أنني أرى، والله أعلم، أن أهم عنصر من عناصر المعادلة الصعبة لا يكمن في الأنظمة والبيروقراطية القاتلة على الرغم من دورهما السلبي، بل في الإنسان الذي يطبق الأنظمة واللوائح ".
ويؤكد سعادته ومن واقع خبرته خلال السنوات الماضية، أنه يعاني أشد المعاناة عند تعامله مع الدوائر والهيئات المختصة. وأنه وجد بعد تأمل المسألة أن عنصر الإنسان هو الفيصل في الأمور كلها". فالإنسان هو وحده الذي يستطيع أن يقرأ ويفهم من النظام كل ما من شأنه التيسير على الناس، كما أنه وحده من يحاول أن يضع العراقيل (النظامية!!!) إن شاء. إنه الإنسان الذي نشأ ووجد نفسه محكوما بمنظومة من الأعراف والتقاليد التي شكلت تكوينه الثقافي، فأصبح ليس له من هم في عمله اليومي إلا دفع المسؤولية عنه نحو غيره، والنأي بنفسه عن تحمل مسؤولية الأمانة، وحصر مسؤوليته الوظيفية في التقييد بأضيق حدود النص والأخذ بالأحوط لحماية نفسه من المساءلة، حتى وإن كان في ذلك تعسف غير مبرر وإرهاق للناس وتعطيل لمصالحهم وهلكة للمال والبلاد والعباد".
ويستمر سعادته قائلا: "إن ما يذكره هنا ليس تنظيرا بقدر ما هو واقع نعيشه ونلمسه كل يوم في حياتنا المهنية. وما ذاك إلا لأن النظام ليس له قدسية التطبيق والحماية ولأن غضب المسؤول الفرد قد يطول من هم تحت يديه من المرؤوسين، وليس لهؤلاء التابعين التستر بنصوص النظام الذي يفترض أن يحميهم. وبما أن هذا المسؤول فرد فليس للموظف المسكين بد غير أن يستشف رغبات سيده ورئيسه فينفذها حتى وإن أدت إلى تعطيل مصالح الناس، ويكتفي بالاعتذار بلطف لضميره وللمراجعين وللأنظمة والقوانين، ويلغي بذلك كل مساحة للاجتهاد والتطوير والتسهيل على إخوانه وأهل ملته.
ويضيف: إننا بحاجة إلى تصنيف وترتيب الأولويات وإلى أن يدرك كل من تولى مسؤولية ما، أن الأنظمة إنما وضعت لمعرفة الحقوق والواجبات وتوحيد المعاملات والتسهيل على الإنسان في شؤونه اليومية والحياتية. وأن الهدف الأسمى للعاملين في جميع الأجهزة والدوائر ذات العلاقة بالناس هو خدمتهم توطئة لتلبية احتياجاته، لا خدمة رؤسائهم ومحاولة التهرب من تحمل مسؤولياتهم بفذلكاتهم الاجتهادية التي لا تصب إلا في إطار المزيد من التعقيد والإرهاق للإنسان".
ويعترف الدكتور باسم بأنه يمكن من الناحية الواقعية ( البراغماتية ) قبول نسبة من التجاوزات من قبل العاملين، كأمر لا مفر منه في عالم مملوء بالخير والشر. لكن ما لا يصح قبوله هو هذا القدر الكبير من العراقيل والتعقيدات لمجرد محاربة 5 في المائة من المتحايلين. لأننا بهذا الأسلوب نقوم بإرهاق 95 في المائة من الشرفاء، مما يولد تراكما ضخما من الإجراءات المعطلة لمصالح الناس ومعاملاتهم. ويدلل الدكتور باسم على ذلك بالإشارة إلى أن نسبة التحايل والسرقات التي تحدث عند استخدام بطاقات الائتمان، لم تدفع الشركات المصدرة لها إلى وضع العراقيل والتعقيدات سواء في إجراءات استخدامها أو استخراجها. لأنها لو فعلت ذلك فإنها سترهق النسبة العظمى من المستخدمين الشرفاء، بل لجأت إلى زيادة تسهيل هذه الإجراءات بالنسبة إلى المستخدمين. لكن في الوقت نفسه قامت هذه الشركات بإجراء المزيد من البحوث التي تؤدي إلى تبني سياسات إدارية ومالية لخفض نسبة التحايل. ومع قبول هذه الشركات بحتمية وجود نسبة مقدرة إحصائيا من فئة المحتالين، فإن ذلك لم يؤثر في التزامها بالعمل المستمر نحو تسهيل إجراءات استخدام هذه البطاقات من قبل عملائها. إن ما سبق يوضح الفرق بين المجتمعات التي تقدر الإنسان وتجعل له قيمة، وتلك التي تختلط لديها المقاييس فلا ترى في الإنسان سوى أنه وحش كاسر يجب أن يقيّد ويكبّل بكل أنواع الأنظمة والبيروقراطية.
ويذكرنا سعادته بأن مفهوم العمل التطوعي جزء أصيل في ثقافتنا وشريعتنا الإسلامية ومتوافق مع مقاصدها السامية، ونحن أولى بالعناية به من غيرنا. لكننا للأسف لم ُنفعّله في حياتنا، بينما نجده عملا منتشرا ومنظما عند غيرنا من خلال الكثير من المنظمات الدستورية والحقوقية، التي تقوم بالدفاع عن أولئك النفر الذين لا يملكون القدرة على استئجار القوي الأمين. ويضيف الدكتور باسم أن المحاكم الأمريكية لديها فريق كامل من المحامين يسمى (الدفاع العام) وهو مختص بالدفاع عن كل من لا يستطيع توفير محام له. أما شركات المحاماة الكبرى، فتخصص جزءا من عمل أفرادها للغرض نفسه, إضافة إلى أغراض خيرية أخرى مثل تقديم الخدمات القانونية والاستشارات للمتاحف والجمعيات الخيرية والمنظمات الشبابية والشباب الناشئ أصحاب الأفكار الإبداعية ممن يعتبرهم الغرب عناصر إثراء لحضارته وقيمه.
ويؤكد الدكتور باسم في معرض تعليقه على مقالي، أنه حاول مرارا وتكرارا أن يقنع المسؤولين بمثل هذه الأفكار دون جدوى. وإنه قام بالفعل بعرض خدماته عليهم فشكروه وأحسنوا وفادته لكن الأمر انتهى عند هذا الحد. لكنه لاحظ أن الجميع كان ينظر إلى فكرته باستغراب وريبة وكأن وراء عرضه غرض شخصي. لذلك فقد حصر أمر العمل التطوعي القانوني في إطار مكتبه, معتبرا ذلك زكاة علمه وعمله داعيا المولى أن يتقبل منه ويرزقه الإخلاص فيه. ومع ذلك فإنه يؤكد أن يده لا تزال مبسوطة كل البسط لتحويل مثل هذه الأفكار الخيرة إلى واقع ملموس لخيرنا جميعا.
إن من مقاييس تقدم المجتمعات أن تحفظ كرامة الإنسان وتصان حقوقه فيها، ليمضي بعدها مطمئنا شاقا طريقه في أداء عمله وبناء مجتمعه وهو قوي بالله وبولي الأمر الذي يأخذ له الحق ويعاقب كل من قصر أو استغل موقعه. إن المسألة برمتها تتعلق بأسلمة الأخلاق والمساواة والحرية والعدالة وعدم التمييز في الجنس والعرق واللون والجغرافيا ".
تحية تقدير ومودة لأخي المحامي الدكتور باسم عبد الله عالم. وشكرا سلفا لكل من يحتضن معه هذه الفكرة الخيرة.