Author

رجال صنعوا دولا

|
<a href="mailto:[email protected]">[email protected]</a> يُروى عن الشيخ عبد الله بن بليهد أنه قابل الملك عبد العزيز - رحمهما الله - حينما كان الأخير صبيا يعيش مع أبيه في الكويت، وبحكم معرفة ابن بليهد بجزيرة العرب وسكانها وقبائلها وتاريخها استطاب الفتى عبد العزيز حديثه، وقبل أن يودعه سأله قائلا ما معناه: "ما رأيك يا شيخ عبد الله بشابٍّ لا يملك من حطام الدنيا عدا هذه الخيزرانة وهذه الراحلة، تُرى هل بمقدوره أن يستعيد حكم نجد؟" ولم يَـدُر في خلد ابن بليهد آنذاك أن هذا الفتى يوما ما سيصبح ملك المملكة العربية السعودية، لكنه من باب المجاملة أجابه: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير". هل الرجال تصنع الدول أم أن الدول هي التي تصنع الرجال؟ سؤال لطالما رددناه في قرارة أنفسنا إذا أعيانا البحث عن مخرج من الأزمات التي تعاني منها أمتنا. والناس لهم مذاهب شتى في هذه المسألة. البعض يعتنق مقولة: مثلكم يولّى عليكم، بمعنى أن الشعوب المتخلفة لا يمكن أن تنتج إلا زعامات متخلفة، ويستشهد على ذلك بالثورات والانقلابات والزعامات السياسية العربية التي أخفقت كلها وفشلت فشلا ذريعا في تحقيق طموحات شعوبها، من تجربة عبد الناصر إلى تجربة ميشيل عفلق، وغيرهما كثير. ولكن إذا قلنا إن الشعوب المتخلفة، بحكم تخلفها، لن تنجب زعامات فذة تنتشلها من كبوتها، فأين المخرج إذن؟ سيطول الانتظار ويفوتنا ركب الحضارة إذا انتظرنا، حسب رأي البعض الآخر الذي يؤمن بأن تطور المجتمعات يتم بخطىً وئيدة وبالتنسيق والتزامن بين كل المؤسسات الاجتماعية وأنه يحدث على مراحل متدرجة ومتتالية حتى يتحول المجتمع بعد صراعات مريرة وتضحيات جسيمة إلى مجتمع ناضج حضاريا ينجب قادة ناضجين. ثم إن شيمتنا لا تسمح لنا أن نوكل الأمر لقوى خارجية تتولى مهمة انتشالنا من أزمة التخلف. أعتقد أن الوسيلة الوحيدة لاختصار الطريق والخروج من هذه الدوامة هو أن يقيض الله للأمة رجلا من أبنائها لديه من بعد النظر ووضوح الرؤية وسمو التفكير ومضاء العزيمة وقوة الإرادة ما يؤهله ليرسم طريق الخلاص ويمهد سبيل النجاة. محظوظة هي الأمة التي يجود لها الزمان بقائد ملهم يبعثه الله حينما تكون الظروف مواتية فيلم شتاتها وينتشلها من ظلمات الجهل والتخلف ومآسي الفقر والحرمان ويقودها إلى بر الأمان. هذا ما فعله المغفور له الملك عبد العزيز. ولا يساورني أدنى شك في أنكم تعرفون ملحمة التوحيد بأدق تفاصيلها لذلك لن أتوقف عندها طويلا، بل دعوني أعرج بدلا من ذلك على أمثلة أخرى من التاريخ المعاصر مغايرة لتجربتنا، والتي قد تكون غائبة عن أذهان البعض منكم. طبعا لا تخفى عليكم تجربة دبي الرائدة وما حققه هذا البلد الصغير بموارده المحدودة من إنجازات مبهرة في فترة قصيرة تحت قيادة الشيخ المحنك محمد بن راشد آل مكتوم. أيضا لن أطيل التوقف هنا لأنني متيقن أن غالبية القراء قاموا بزيارات متكررة إلى هناك ورأوا بأم أعينهم كيف تحولت تلك الصحراء الجرداء القاحلة إلى واحة غناء وأصبحت بذلك محطة من أهم محطات السياحة والاستجمام ومركزا من أهم مراكز المال والأعمال في العالم. تجربة اليابان من التجارب الفذة التي تساق كثيرا للتدليل على قدرة الشعوب على النهوض من كبوتها والتطور السريع، لكنني سوف أصرف النظر هنا عن هذه التجربة لأنها حظيت بما تستحقه من التغطية والاهتمام لكثرة ما تحدث الناس عنها، ولأن نهضة اليابان لم يكن السبب فيها وجود شخصية قيادية فذة. لكنني سأتحدث عن تجربة سنغافورة التي تدين بنهضتها الحديثة لشخصية زعيمها لي كوان يو Lee Kuan Yew وتجربة ماليزيا التي دشّنها مهاتير بن محمد. هذان الزعيمان يؤكدان فعلا أن الفرد بمقدوره أن يقود أمته ويغير مجرى التاريخ ويحول مسار الأحداث ويوجهها الوجهة التي تتحقق بها نهضة بلاده وتطورها. ولد لي كوان يو Lee Kuan Yew عام 1932، وهو الذي أسس وقاد حزب العمل الشعبي People's Action party (PAP) الذي كافح لتنال سنغافورة استقلالها من الاستعمار البريطاني سنة 1959. ومنذ تلك السنة التي نالت فيها سنغافورة الاستقلال تسلم لي كوان منصب رئاسة الوزراء واستمر بهذا المنصب حتى سنة 1990، أي أنه احتفظ بالمنصب لمدة 31 عاما. بل إنه حتى بعد أن استقال من رئاسة الوزراء ظل يلعب دورا فاعلا في السياسة السنغافورية من خلال المناصب التشريفية التي كان يتولاها. منذ 1960 وضع لي كوان نصب عينيه تحويل سنغافورة من مناطق سكنية متداعية وقذرة ومزدحمة يسكنها الفقراء إلى مجمعات سكنية حديثة وشرع في أضخم عملية تعمير حضري شهدها التاريخ. ومن أجل تحقيق هذا الهدف بدأ لي كوان بتشجيع القطاع الخاص وتوسيع القاعدة الاقتصادية من خلال تأسيس لجنة التنمية الاقتصادية Economic Development Board والشركة العالمية للتبادل التجاري International Trading Company وبنك سنغافورة للتنمية، كما شجع على تدفق الاستثمارات الأجنبية مما ساعد على تحديث وتوسيع وتنويع القاعدة الاقتصادية. ومنذ ذلك الحين صار الاقتصاد السنغافوري يتطور وينمو نموا مطردا وبدون توقف، مع أن سنغافورة تكاد تخلو من أي موارد طبيعية، ونسبة الأراضي الزراعية فيها لا تزيد على 5 في المائة. لكن سياسة لي كوان الاقتصادية عمدت إلى تركيز القوة العاملة السنغافورية في مجال الخدمات وقطاع التجارة والصناعة، خصوصا صناعة الحواسيب وأجهزة الاتصالات والإلكترونيات. وبالرغم من الركود الاقتصادي الذي منيت به الدول الآسيوية ابتداء من أزمة 1997-1998 وكذلك 2001 إلا أن معدل البطالة في سنغافورة بقي منخفضا، وكذلك التضخم. ومن المشاكل التي كانت تعاني منها سنغافورة تنوع سكانها الإثني. تتألف التركيبة السكانية في سنغافورة مما نسبته 75 في المائة من الصينيين والبقية خليط من الهنود والملاويين يدينون بديانات مختلفة من المسيحية إلى البوذية إلى الهندوسية إلى الإسلام ويتكلمون أربع لغات هي الماندارين (الصينية) والملاوية والتاميلية والإنجليزية. لكن لي كوان دشن سياسة أثبتت نجاحها في الدمج الثقافي والاجتماعي والتسامح الديني والعرقي بين مختلف هذه الإثنيات والمكونات الديموغرافية للمجتمع السنغافوري، كما انتهج سياسة تعليمية ناجحة بحيث أصبحت نسبة التعليم في سنغافورة من أعلى النسب في العالم، علما بأن مناهج التدريس فيها تتم بكل اللغات الأربع. كما انخفض معدل النمو السكاني إلى 1 في المائة، كل ذلك بفضل مشروع لي كوان في التنظيم الأسري والحد من الهجرة. كان على لي كوان، لكي يخرج سنغافورة من محنتها، أن يتبع سياسات حازمة وصارمة خلقت له الكثير من المتاعب مع منظمات حقوق الإنسان، لكنه بالمقابل غرس في نفوس مواطنيه قيم الإحساس بالواجب والالتزام والجدية في العمل والتسامح الديني والإثني بين مختلف مكونات الشعب. وقضى على التسيب وتعاطي المخدرات الذي كان قبل ذلك متفشيا في سنغافورة بشكل مرعب. واستطاع خلال ولايته أن يحول سنغافورة من مجرد ميناء مزدحم يعج بالفقراء إلى بلد ثري وصناعي متقدم يتمتع بطرق مواصلات جيدة وشبكة سكك حديدية ممتازة. وبفضله تحولت سنغافورة في العقود الأخيرة إلى مركز من أهم المراكز التجارية في العالم. وتجربة سنغافورة لا تختلف كثيرا عن التجربة الماليزية التي قادها مهاتير بن محمد. ولد السيد مهاتير عام 1925 ودرس الطب لكنه انخرط في السياسة وتولى عدة مناصب وزارية في السبعينيات. عندما استقلت ماليزيا من الاستعمار البريطاني سنة 1957 تولّى تنكو عبد الرحمن منصب رئاسة الوزراء. إلا أنه في عام 1981 آل المنصب إلى مهاتير الذي ظل محتفظا به حتى عام 2003. ومنذ توليه منصب رئيس الوزراء سعى مهاتير جاهدا للتأليف بين المكونات الديموغرفية لماليزيا من ملاويين وصينيين وهنود، وإلى تحسين اقتصاد ماليزيا وتحويلها إلى دولة صناعية. وفي عهده حقق الاقتصاد الماليزي نموا مطردا وأصبحت ماليزيا في فترة قياسية أحد نمور آسيا وأصبح مستوى المعيشة فيها هو الأعلى في المنطقة. وبفضل نمو القطاع الصناعي وتنوعه أصبح معدل النمو السنوي من سنة 1987 حتى سنة 1997 يراوح ما بين 8 إلى 9 في المائة، ومما ساعد على ذلك تحويل الشركات الكبرى من القطاع الحكومي إلى القطاع الخاص وتشجيع الاستثمارات الأجنبية. ولقد عانت ماليزيا، مثل غيرها من دول شرق آسيا، من الركود الاقتصادي الذي حل بمجموعة النمور خلال الفترة 1997 - 1998 لكنها رفضت معونة مؤسسة النقد الدولية International Monetary Fund واستطاعت أن تحل مشاكلها بنفسها وتسترد عافيتها من خلال اتخاذ حزمة من الإجراءات الاقتصادية الصارمة والشاملة. سنغافورة وماليزيا تكادان تكونان الدولتين الوحيدتين اللتين تمكنتا من حرق المراحل واختصار الزمن والقفز رأسا إلى مصاف العالم الحديث دون المساس بهويتيهما الوطنيتين أو قيمهما الاجتماعية، ونحن أحوج ما نكون إلى أن نحذو حذوهما. التمسك بالمنهج البراغماتي والابتعاد عن الديماغوجية والشعارات الفارغة مكنهما من تحقيق ما فشلت في تحقيقه دول آسيوية أخرى مثل الفلبين وإندونيسيا. يا حبذا لو تمعنّا في هذه النماذج الشرقية المضيئة في التنمية واستوعبناها واستفدنا منها، فهي الأقرب لنا والأشبه بنا بدلا من التركيز فقط على تجارب الغرب وخبراته.
إنشرها