لماذا تأخرت جماعة الجهاد المصرية في المراجعة؟
<a href="mailto:[email protected]">drashwan59@yahoo.com</a>
بعد نحو تسع سنوات من قيام الجماعة الإسلامية المصرية في تموز (يوليو) 1997 بإعلان مبادرتها الشهيرة لوقف كل أشكال العنف التي ظلت تمارسها في مصر لنحو عقدين من الزمان، تقوم الآن قيادات الجماعة الإسلامية الثانية التي شاركتها هذا المسار العنيف، أي جماعة الجهاد، بمراجعة حقيقية لأفكارها وممارساتها القديمة. والحقيقة أن تأخر قيادات الجهاد الموجودة في السجون المصرية منذ نحو ربع قرن مع مئات من أعضاء الجماعة الذين يقبعون فيها معهم منذ سنوات طويلة عن تأكيد مراجعتهم تلك، يعود في الأساس إلى طبيعة تشكل تلك الجماعة والتطورات التي مرت بها والاختلافات الجوهرية بينها وبين الجماعة الإسلامية.
فمن المعروف تاريخياً أن جماعة الجهاد لم تتشكل ككيان موحد سوى في نهاية عام 1980 وبداية عام 1981، عندما قام مؤلف كتاب "الفريضة الغائبة" محمد عبد السلام فرج بتوحيد عدة مجموعات صغيرة سبق لها التشكل والوجود في مصر منذ بداية السبعينيات ضمن جماعة واحدة حملت اسم الجهاد وعلى أرضية فكرية واحدة مثلها ذلك الكتاب الشهير. ومن المعروف أيضاً أنه قبل ذلك التاريخ ومنذ نهاية الستينيات شهدت مصر الكثير من المحاولات الصغيرة لتشكيل جماعات تتبع فكر الجهاد كما تبلور فيما بعد مع مؤلف "الفريضة الغائبة"، كانت أولها هي المجموعة التي تشكلت في حدود عام 1967 وكان من أعضائها أيمن الظواهري. ومنذ ذلك الوقت وحتى نجاح فرج في توحيد تلك الجماعات الجهادية الصغيرة في جماعة واحدة، ظهرت وتلاشت عدة مجموعات شارك في تأسيسها أحياناً الأشخاص الذين انتقلوا نفسهم من واحدة إلى أخرى. وقد كانت أبرز تلك المجموعات تلك التي اصطلح على تسميتها بجماعة الفنية العسكرية بقيادة صالح سرية التي قامت بمحاولة فاشلة لقلب نظام الحكم في مصر في صيف 1974 انتهت بالقبض على قياداتها وأعضائها ومحاكمتهم وإعدام بعضهم وسجن البعض الآخر. وتعد تلك المحاولة أولى محاولات الحركات الجهادية المحلية المصرية لاستخدام القوة والعنف للوصول إلى الحكم، كما أنها زرعت في داخل المجموعات الجهادية خاصية رئيسية ظلت مستمرة في داخلهم وتتعلق بالسعي الدائم إلى تجنيد عسكريين محترفين والتركيز في أعمالهم الانقلابية وعنفهم على قمة الدولة المصرية. فقد قامت نظرية التغيير عند الجهاد على العمل الانقلابي العسكري المفاجئ ضد قيادة الدولة في القاهرة والاستيلاء على الحكم فيها، وهو ما أدى إلى تركيز عضويته على الوجود في العاصمة والمناطق القريبة منها. أيضاً فقد ركزت جماعة الجهاد دوماً على استخدام وسائل عسكرية أكثر تدميراً واحترافاً مثل الهجمات بالقنابل والعبوات المفخخة والموقوتة والموجهة عن بعد وأحياناً الهجمات الانتحارية.
بذلك الجذر التاريخي بدت جماعة الجهاد حتى بعد تشكيلها موحدة على يد محمد عبد السلام فرج مختلفة في العديد من الجوانب عن الجماعة الإسلامية بالرغم من انتماء الاثنين إلى فئة الجماعات الدينية الجهادية المحلية. وقد وضحت التمايزات والفوارق بين الجماعتين بعد أن انفض التحالف الذي تم بينهما عام 1981 والذي أدى إلى اغتيال الرئيس السادات، في عام 1984 على إثر خلافات كبيرة فقهية وعملية بين قيادات كل منهما أثناء وجودهم معاً في السجون المصرية. وبعد ذلك الانشقاق بدا واضحاً أن المجموعات الجهادية الصغيرة ظلت حية وقائمة في داخل الإطار الأوسع الذي مثلته جماعة الجهاد بعد أن انفصلت عن الجماعة الإسلامية، ومارست دورها في تفتيته من الناحية الواقعية وتحوله إلى الكثير من التنظيمات الصغيرة التي لا يجمعها سوى الاسم وجزء من التاريخ. كذلك المعروف أن الجماعتين، أي الجماعة الإسلامية وجماعة الجهاد، كانتا تتبنيان رؤية فكرية وحركية واحدة فيما يخص أهداف عنفهما تلخصها مقولة مؤلف كتاب "الجهاد: الفريضة الغائبة" محمد عبد السلام فرج ذو التأثير المباشر والعميق على الجماعتين حتى منتصف التسعينيات تقريباً، وهي أن "العدو القريب أولى بالقتال من العدو البعيد". وتعني تلك المقولة من الناحية العملية أن الجماعتين كانتا تجدان في الحكومة المصرية "العدو القريب" والوحيد الذي يجب أن يتوجه إليه عنفهما سعياً إلى الإطاحة بها والاستيلاء على السلطة بدلاً منها ومن ثم تأسيس دولة إسلامية وإعادة أسلمة المجتمع المصري كله. وقد تعرضت تلك الرؤية النظرية والحركية لهزة كبرى مع إعلان مبادرة الجماعة الإسلامية وقرارها بالتوقف عن العنف والتحول لجماعة سياسية ـ اجتماعية، وبخاصة مع انضمام عدد كبير من قيادات وأعضاء الجهاد المقيمين الموجودين في السجون إلى مبادرة الجماعة بعد أيام من إعلانها في الخامس من تموز (يوليو) 1997.
وقد انضم في السنوات التالية أعداد أخرى من قيادات وأعضاء الجهاد إلى موقف الجماعة بصورة فردية دون أن يصدر قرار من قيادة الجماعة بذلك. ويبدو أن هذا الوضع المختلف بين الجماعتين تجاه وقف العنف يعود إلى نشأتهما التاريخية واختلاف طبيعة كل منهما، فالجماعة الإسلامية التي كانت تتمتع منذ تشكيلها في النصف الثاني من السبعينيات بكيان تنظيمي متماسك وقيادة موحدة ودرجة واضحة من الولاء والاستقرار الداخليين، تمكنت من اتخاذ وتطبيق قرار مركزي من قيادتها بالتوقف عن العنف والتحول كلية إلى جماعة سياسية ـ اجتماعية إسلامية سلمية. أما الجهاد فبالرغم من تبني أعضائه وقياداته كافة في داخل مصر تقريباً والغالبية الساحقة من المنفيين منهم في الدول الأوروبية نفس الموقف الجديد للجماعة الإسلامية وتحولها بعيداً عن العنف، فلم يصدر أي قرار مركزي من أي هيئة قيادية من الجماعة يؤكد ذلك التحول نظراً لعدم وجود مركز قيادي حقيقي وفعال لذلك التنظيم. وقد نتج عن ذلك أن الدولة المصرية من ناحيتها لم تقم بأية إجراءات للتسهيل على أي من قيادات الجهاد ولا أعضائه مثلما فعلت مع الجماعة الإسلامية، وظلت تتعامل معهم بقدر أكبر من الحساسية الأمنية التي تتعامل بها مع الجماعة الإسلامية. وقد زاد من تلك الحساسية طبيعة الجهاد الأكثر عنفاً من الجماعة وتركيزه على العمليات الانقلابية وتجنيد العسكريين وهو ما أدى إلى استمرار كل قياداته وعضويته تقريباً في السجون المصرية حتى اليوم وخروج الأغلبية الكبيرة من قيادات وأعضاء الجماعة الإسلامية.
ومع كل ذلك فقد بدأت قيادات جماعة الجهاد التاريخية خلال الأشهر الأخيرة في إعادة ترتيب صفوف أعضائها والبدء في بلورة مراجعات فكرية موحدة لأفكارهم وممارساتهم العنيفة السابقة بترتيبات مع أجهزة الأمن المصرية عبر المرور عليهم في مختلف السجون المصرية المحتجزين فيها. وبهذا التطور المهم والحاسم، يبدو واضحاً أن جماعة الجهاد المصرية سائرة اليوم في الطريق نفسه الذي سلكته قبلها الجماعة الإسلامية، وهو ما يعني أن ملف الجماعات الجهادية المصرية العنيفة على وشك الإغلاق نهائياً بعد نحو 30 عاماً من فتحه.