فاتورة الكهرباء: مصدر الشكوى الدائمة للمواطن .. أما من حل؟!
لا أحد يشك في أن إعادة هيكلة قطاع الكهرباء التي تمت قبل بضع سنوات كانت تهدف إلى دعم هذا القطاع وإعادة تنظيمه بحيث يصبح قطاعا اقتصاديا منتجا، معتمدا على نفسه في مواجهة ازدياد الطلب على هذه الطاقة في المستقبل دون الحاجة إلى الاعتماد على الدعم الحكومي، أو قروض البنوك وصناديق التمويل، وكان من أبرز سمات إعادة الهيكلة دمج شركات الكهرباء المتعددة في شركة واحدة ذات كيان قوي، وإنشاء الهيئة العامة للكهرباء لتحل محل المؤسسة العامة للكهرباء، وإلغاء الإعانة الحكومية، وإعادة هيكلة الأسعار بالتركيز على هذه العوامل، وعلى الدخل الذي يتوافق مع الأهداف المشار إليها، مع منح تخفيض واضح لبعض فئات المشتركين مثل الصناعيين والزراعيين، ولم يجد المسؤولون عن الهيكلة كما يبدو، تحت ضغط التوجه المذكور، أمامهم، سوى استهداف الفئات الأخرى من المستهلكين، مثل متوسطي وكبار المشتركين من الأفراد والمنشآت والإدارات الحكومية، لتحميلهم تبعات هذا التوجه في صورة فاتورة لا تمثل الشرائح المخفضة فيها شيئا أمام تراكم الاستهلاك في الشريحة الكبرى البالغة 26 هللة، والتي تتجاوز التكلفة الفعلية للإنتاج بأكثر من الضعف!!
ومن الواضح أن الهدف الأول يتركز فيما ذكرناه، وهو توفير مصدر ثابت لتمويل مشروعات التوسعة والتوليد، بدليل استحداث رسوم لم يجد المستهلك أن لها ما يقابلها من الخدمات مما يعود عليه بالمنفعة، أكثر من إحساسه بأن الهدف هو تحميله نصيبا من أعباء التمويل المبحوث عنه، وذلك عندما فُرض عليه رسم باسم "رسم إعداد الفاتورة وصيانة العداد" يتراوح بين 10 و30 ريالا لكل عداد شهريا، وهو ما يزيد على قيمة الاستهلاك لبعض صغار المشتركين!! ولم يغير من الأمر قيام الشركة، فيما بعد، بتغيير اسم هذا الرسم من الفواتير إلى (خدمة العداد)، فهو رسم لا تقابله خدمة، ولا يوجد له مثيل لدى الجهات التي تقدم خدمات مماثلة, فإعداد الفاتورة عمل تُسأل عنه الشركة وليس المشتركين، وإلا لكان من حق مقدمي الخدمات الأخرى مثل شركات الهاتف والمياه المطالبة برسم مماثل لإعداد فواتيرها!! أما صيانة العداد فلا يكاد أحد يتذكر متى احتاج عداد بيته إلى صيانة يدفع مقابلها شهريا وهو يرى السنوات تمر دون أن يقف فني صيانة على بيته ولو مرة واحدة؟! هذا فضلا عن أن العداد يعتبر من ممتلكات الشركة وهو أداة حساب الاستهلاك من قبلها ويعمل لمصلحتها، بالضبط مثلما يعمل عداد الماء الذي لا تتقاضى الجهة التابع لها أي رسوم خدمة أو صيانة له، رغم أنه معرض للعطل ويحتاج إلى الصيانة أكثر من عداد الكهرباء!! ومع ذلك كله فإن صيانة عداد الكهرباء، إذا فرض أنها لازمة, وشر لا بد منه، فإنها يجب ألا تتعدى شيئا رمزيا لا يزيد على ريالين أو ثلاثة، طبقا لحجم العداد، لا أن تصل إلى أضعاف قيمة العداد في غضون عدة سنوات، وتتجاوز حصيلة الشركة منه مئات الملايين، ويشعر المواطن وهو يدفعه، مرغما، وكأنه يدفع ضريبة من الضرائب التي أعفته الدولة منها, لتأتي شركة الكهرباء وتأخذها بطريقة أخرى؟!
ومن الغريب أن الشركة مثلما تجرأت وغيرت اسم هذا الرسم مما صدر به، فقد تجرأت مرة أخرى وألغت تفاصيل حساب الاستهلاك وفقا للشرائح من الفاتورة, ولم يعد بوسع المشترك التأكد من كيفية وصحة حساب استهلاكه، وما عليه إلا الدفع، أو مواجهة الواقع وهو فصل الخدمة!!
وبالنسبة للاستهلاك الصناعي والزراعي فقد حدد لهما بموجب الهيكلة شريحة مخفضة هي 12 هللة (مع نسبة حسم في الشريحتين الأوليين للاستهلاك الزراعي) أي أقل من نصف الشريحة القصوى لاستهلاك الفئات الأخرى، وأقل من تكلفة الإنتاج، وبمعنى آخر فإن الشركة تخسر في تزويد هذه الفئات بالطاقة، وأن الذي يغطي هذه الخسارة ويتحمل الفرق في قيمة الاستهلاك لهاتين الفئتين مضافا إليهما فئات أخرى كالمدارس والمعاهد والمستشفيات، فهم فئات المشتركين الآخرين الذين ذكرناهم، لأن الإعانة التي كانت تقدم لتغطية الفرق قد ألغيت، مما يعد خللا في التنظيم يخالف القاعدة النظامية التي تقول إن الحكومة إذا تدخلت في تحديد سعر خدمة ما بأقل من التكلفة, فإنها تتحمل الفرق في السعر، لا أن يتحمله بعض فئات المشتركين!! ويبدو أن هذه النقطة كانت مغيبة أثناء الدراسة التي بنيّ عليها التنظيم، لغياب من يمثل المستهلكين أثناء الدراسة!! رغم عرض نتائجها على مجلس الشورى ومجلس الوزراء، وموافقتهما عليها!!
من جانب آخر، لم يكن من الإنصاف المساواة في الاستهلاك بين المزارع وغيره من المستهلكين في منح التخفيض وبخاصة الصناعة، لعدة أسباب: أولها، أن قطاع الصناعة بكامله يقوم على مبدأ الربحية، وكل مشاريعه يسبق الترخيص بإقاماتها دراسات تثبت جدواها الاقتصادية، وثانيها، أن هوامش الربح في هذا القطاع تجيّر في الغالب للمنتج، وثالثها، أن هذا القطاع يحظى بدعم سخي يتمثل في القروض الميسرة والتسهيلات، وتمويل الصادرات، وهذا بعكس القطاع الزراعي الذي لا يقوم على مبدأ الربحية، باستثناء عدد محدود من الشركات، أكثر ما يقوم على مبدأ الولاء والانتماء للأرض, فضلا عن أن الجزء الأكبر من الأرباح فيه، إن وجدت، يذهب لجيوب أخرى غير جيب المزارع، ومن ثم فإن هذه العوامل كانت جديرة بالنظر والتقدير والمراعاة.
نأتي إلى نقطة مهمة أشار إليها التنظيم وهي الترشيد في استخدام الطاقة الذي كان أحد الأهداف الرئيسة التي ركزت عليها الهيكلة حين ألزمت الشركة بالتعاون مع الجامعات والمراكز المتخصصة بوضع برنامج شامل للترشيد، كما ألزمت وزارة الصناعة والكهرباء (حينها) بالتعاون مع وزارة الإعلام لوضع خطة إعلامية تركز فيها على أهمية الترشيد، ورغم أنه لم ينفذ شيء من ذلك، إلا أن حرارة الفاتورة التي جاءت بعد الهيكلة، قد ألهبت جلود المواطنين، وكانت كفيلة بإجبارهم على البحث عن أي وسيلة تحقق الترشيد، حتى لو كانت الاستكانة في العتمة أحيانا، بيد أن تأثير ذلك بقي محدودا، وسيبقى كذلك أمام طبيعة الطقس القاسية في معظم مناطق المملكة، التي تجبر الناس على تدوير أجهزة التكييف فترة لا تقل عن عشرة أشهر في السنة, فضلا عن أن المستهلك تعوّد، في ظل الوضع السائد قبل الهيكلة، على التوسع في استخدام الأجهزة الكهربائية وأجهزة التكييف، ولم يعد بمقدوره الاستغناء عن ذلك بسهولة لصعوبة التحول عنها، وارتفاع تكلفته!! ومن ثم فإن الخدمة الكهربائية في بلد مثل المملكة تأتي في مقدمة ضرورات الحياة التي كان يجب مراعاتها عند التسعير، لأنه لا أحد يتخيل أن تعيش أسرة بدون الكهرباء في مثل هذه الأجواء القاسية!!
خلاصة ما أود قوله، بدون توجيه لوم إلى أحد، أو تحميل أحد بعينه مسؤولية الإجحافات التي نشأت عن الهيكلة, ومع التسليم بأن العيوب والملاحظات لأي تنظيم لا تظهر إلا بعد التجربة والتطبيق، إنني أرى أن الأمر يحتاج إلى إعادة نظر، ففاتورة الكهرباء أضحت ثقيلة جدا على كاهل المواطن، وتمتص جزءا غير يسير من دخل الأسر، وأحسب أنني أتكلم بلسان الغالبية منها التي حاولت وتحاول الترشيد بكل ما أوتيت من قوة، حتى أن بعضها أصبح يعيش في جو من الكآبة والمشاحنات بين أفراد الأسرة بسبب ذلك!!
وحيث إن تخفيض هذا الحمل يتفق مع التوجه الخيّر الذي يتبناه وينتهجه خادم الحرمين الشريفين، في تلمس أوجه التخفيض من أعباء الحياة على المواطنين, وحيث إن إعادة النظر في تكاليف هذه الخدمة يعد من أوجه التخفيض التي ستقابل بالرضى والامتنان والدعاء، فإن الوقت قد حان لمراجعة الوضع، وذلك بإعادة التسعير، وإلغاء الرسوم التي ليس لها مقابل أو مبرر، بشكل يحقق العدالة بين فئات المشتركين، ويوزع العبء بينهم، دون محاباة لفئة دون أخرى، أو الإضرار بفئة بعينها وتحميلها تبعات ليست مسؤولة عنها، حتى شركة الكهرباء ينبغي أن تحصل على حقها الفعلي شريطة اطمئنان المشتركين إلى حسن الإدارة وتوافر الكفاءة والترشيد في إدارات الشركة ذاتها.
وأشير بأمانة, قبل أن أختم، إلى أن الوضع وصل إلى حد يستلزم التدخل، فكثيرا ما نرى بين ظهرانينا، من المواطنين، من يتسول في المساجد والطرقات بفاتورة الكهرباء، يجمع الصدقات لتسديدها، الأمر الذي ينبئ عن وجود مشكلة اجتماعية بسبب فاتورة الكهرباء تحتاج إلى تدخل سريع لحلها!!
والله من وراء القصد