لقاءٌ طال انتظاره!

<a href="mailto: [email protected]"> [email protected]</a>

أثبت اللقاء الذي نجحت أخيرا القناة الأولى في التلفزيون السعودي في إجرائه مع رئيس هيئة سوق المال المهندس جماز السحيمى، أن الحديث إلى الناس أفضل من ترك الفضاء خاليا للتكهنات والشائعات. وإن كنت قد تمنيت لو اختار معاليه أن يكون لقاؤه الأول مع أعضاء مجلس الشورى الذين أبدوا رغبة سابقة في لقائه. لكن على كل حال، أن يأتي اللقاء بأي وسيلة خير من غيابه كليا.
في عصر الناس هذا، عصر ثورة الاتصالات، حيث تنتقل وتنتشر الأخبار والمعلومات والشائعات بسرعة مذهلة، تصبح مجاراة سرعة هذه الأدوات في النقل والنشر ضرورة لا مندوحة عنها لضمان وصول المعلومات الصحيحة في وقتها. خاصة إذا تعلق الأمر بقضايا اقتصادية حيوية تمس مصالح قطاع واسع جدا من أفراد المجتمع، فكيف إذا تعلق الأمر بأسواق المال التي تتصف بطبعها بحساسيتها البالغة تجاه تداول الأخبار والمعلومات والشائعات.
إن الهدف النهائي لأية مؤسسة أو هيئة حكومية عامة هو خدمة عموم الناس ورعاية مصالحهم. ولا شك أن نجاحها يعتمد على مدى كفاءتها في تحقيق هذا الهدف.
كانت المأساة التي ألمت بنحو ثلاثة ملايين مستثمر في سوق الأسهم ( أو خمسة ملايين مستثمر في تقديرات أخرى) خلال الـ 50 يوما الماضية، كافية لكي تمارس الهيئة صلاحياتها في حماية مصالح الناس من هذا التدهور.
ذكر معالي المهندس السحيمي في مقابلته التلفزيونية، أن الهيئة رأت قبل بداية الانهيار أن نصف السيولة الموجودة في السوق كانت تضارب على أسهم الشركات ذات الأداء المالي الضعيف، وأن أسعار أسهم هذه الشركات قد تضخمت ووصلت إلى مستويات عالية لا تعكس حقيقة الوضع المالي لهذه الشركات. وأنه لهذا السبب اتخذت الهيئة مجموعة من الإجراءات المعروفة, منها تخفيض نسبة التذبذب إلى 5 في المائة ) لكبح جماح السوق وحمايته من احتمال ذهابه بعيدا في هذا الاتجاه. إذا من الواضح أن سبب تدهور السوق هو رد فعل على مجموعة الإجراءات التي قصدت الهيئة بها حماية السوق أصلا من احتمال انهيارهاا.
هل وفّقت الهيئة في هذه السياسة؟ إن في عودة الهيئة عن هذه السياسة جوابا كافيا . لكن الثابت ـ في تصوري - أنه كلما توجهنا إلى جذور المشكلة، كانت حلولنا أكثر صوابا. المشكلة الأصلية في سوقنا المالية تتمثل في افتقارها إلى عمق يناسب هذه السيولة. فعدد الأسهم التي يجرى تداولها ضئيل جدا مقارنة بالسيولة الضخمة التي تطاردها. وقلة عدد الأسهم المتداولة هي نتيجة متراكمة لخلل سابق في شكل توزيع الثروة في المجتمع. وغني عن البيان، أنه كلما كانت الثروات في أي مجتمع موزعة بشكل أكثر عدالة وأوسع مدى بحيث تشمل أكبر عدد ممكن من الناس، كان هذا مدعاة لازدهار ورواج أفضل.
لذلك كان من الأجدى أن تنصرف الجهود إلى تعميق السوق أولا، بزيادة عدد الشركات لطرح أسهم أكثر. وفي هذا الصدد ينبغي أن نشجع رجال الأعمال على إقامة المشاريع التي تمثل إضافة مهمة للاقتصاد الوطني ، كالمشاريع التعليمية والصحية والإنتاجية. لكن هذا يتطلب أن يسبقه وجود بيئة مشجعة على الاستثمار ومحفزة على تكوين الشركات وإقامة المشاريع. لذلك فإن البيروقراطية والعقبات الإدارية والشروط التعجيزية غير الواقعية، وتفشي الفساد الإداري هي أمور معطلة للرواج، وطاردة للأموال من الأسواق، ومانعة من انتعاشها وازدهارها، ومؤدية إلى تفشي البطالة وانتشار الركود. وهكذا نرى أن الأمور معتمدة بعضها على بعض.
ثم أكد معاليه متانة وقوة اقتصادنا الذي يشهد حاليا ازدهارا فريدا في تاريخه بسبب تحسن عوائد النفط. وهذا صحيح، فقد أعلنت بلادنا, ولله الحمد, عن أعلى موازنة حكومية في تاريخها على الإطلاق، وشهدت خزانتها العامة أعلى الإيرادات النفطية وحقق اقتصادنا نموا حقيقيا في دخله القومي بلغ نحو 6 في المائة. لكن المهم هو أن ينعكس هذا التحسن في كليات الاقتصاد على أحوال الناس، ليلمسوا تحسنا في توفير احتياجاتهم الأساسية في المأكل والمشرب والتعليم والصحة والمسكن والتمويل، وقبل هذا وذلك ليجدوا فرصا للعمل والكسب. لكن نظرا لضيق هذه الفرص كان الناس يقبلون على أي فرصة تحسن دخولهم. لكن تأتي الرياح بما لا تشتهى السفن, فهناك من فقد مدخراته قبل سنتين في مأساة النصب الشهيرة التي تمت من خلال التجارة في بطاقات سوا الهاتفية، وهناك قبلهم من فقدها في بعض مساهمات الأراضي، وهناك من تتآكل مدخراتهم ورواتبهم ـ حتى بعد الزيادات الأخيرة - مع الارتفاع المتواصل في أسعار السلع وتكاليف الخدمات العامة، ثم جاءت مأساة سوق الأسهم الأخيرة لتزيدها عمقا وألما.
لقد هوى مؤشر سوق الأسهم السعودية في الأيام القليلة الماضية بشكل متواصل حتى في أسعار أسهم الشركات القيادية، مخترقا كل نقاط الدعم الممكنة واحدة تلو الأخرى في أخطر انهيار تشهده السوق ليصل يوم الأربعاء الماضي إلى مستوى أدنى من 13 ألف نقطة. والمراقبون مجمعون على أن استمرار انحدار المؤشر سيدخل الاقتصاد مرحلة بالغة الخطورة. ولدى هيئة سوق المال الموقرة الوسائل التي تمكنها من معرفة القوى التي كانت تضغط على السوق لدفعها إلى هذه المستويات الهابطة. مشكلة السوق هي مشكلة فقدان ثقة، وصعوبة توقع تغير القوانين. وبورصات الأسهم لا تتحمل هذه المفاجآت. وحل المشكلة يكون بإعادة الثقة إلى السوق، وتقليل التدخل على الأقل في الظروف الراهنة.
من الواضح أن المأساة لا تكمن في الاقتصاد وإنما في إدارة الاقتصاد! وضعف القوانين التي تمنع الممارسات الضارة بالناس. إن العبرة في الأعمال بنتائجها لا بمقدماتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي