قطاع التأمين والمسؤولية المبعثرة

<a href="mailto:[email protected]">mohbakr@alum.mit.edu</a>

يجد المرء نفسه في حيرة بعض الأحيان إن أراد متابعة ما يجري في قطاع التأمين في المملكة. إذ كان هذا النشاط إلى عهد قريب محرماً بجميع أشكاله وألوانه في العقود التي تبرمها الدولة عدا حالات محددة استثنيت بعينها كطائرات الخطوط السعودية، وسيارات بعثاتنا الدبلوماسية في الدول التي يُطبق فيها التأمين إلزاماً. ولم يقتصر ذلك المنع على عقود الدولة فحسب بل امتد ليشمل شركات التأمين ذاتها حيث لم يُسمح بتأسيسها فضلاً عن الترخيص لها بالعمل. وأدى ذلك القيد إلى تحميل عقود المشاريع العامة تكاليف إضافية كان يمكن تلافيها لو وُفرت لها التغطيات التأمينية المعتادة في تلك الأعمال، ويصدق القول نفسه على عقود التشغيل.

ولعل من المناسب أن نضرب مثلاً لما كان يشكله ذلك الحظر على عقود التأمين من عقبة أمام بعض مرافق الدولة، ومن بينها المؤسسة العامة للموانئ التي أنشئت عام 1976, أي قبل 30 عاماً. إذ لم تكن هناك وسيلة بديلة عن التأمين لتعويض أصحاب البضائع عما قد يصيبها من تلف أثناء مناولتها، وكذا تعويض السفن عن أي أضرار قد تلحق بها نتيجة إهمال الميناء أو مقاوليه. وترتبت على هذا القصور في الموانئ السعودية أمام عملائها من شركات ملاحية وغيرها زيادة في أسعار شحن البضائع إلى المملكة بمبالغ تفوق كثيراً تكلفة عقود التأمين التي استقر العمل بها في جميع الموانئ العالمية، ما دعا مجلس الوزراء إلى ضم الموانئ البحرية إلى الحالات المستثناة من قرار منع عقود التأمين كي تصبح على قدم المساواة مع الموانئ الأخرى المنافسة.
أما المبدأ العام فقد ظل سنوات طويلة بعدم جواز إبرام عقود تأمين تكون الدولة طرفاً فيها. على أن السوق شهدت في تلك الأثناء ظهور أعداد كبيرة من مكاتب التمثيل لبعض الشركات الأجنبية تعرض خدماتها بشكل غير رسمي لمؤسسات القطاع الخاص. وأسفرت تلك الترتيبات عن تسرب أموال كثيرة دونما أي مردود مجد للاقتصاد الوطني سواء في بناء كيانات متخصصة في مجال التأمين أو تأهيل كوادر سعودية، إضافة إلى ضياع حقوق أعداد لا بأس بها من المُؤمن لهم! لكن بالرغم من كل ذلك، ازداد الطلب على خدمات التأمين بمعدلات عالية دفعت الدولة إلى التدخل لمعالجة الخلل في هذا القطاع ولو بشكل جزئي فأنشأت شركة التعاونية للتأمين عام 1986 كشركة مساهمة لمزاولة أعمال التأمين التعاوني للتمييز بين طبيعة عملها كنشاط مباح وبين طبيعة عقود التأمين التجاري التي اعتاد الناس في العالم أجمع التعامل بها. وتبين فيما بعد عدم الحاجة أصلاً إلى مثل ذلك التمييز إذ إن كلا المُسميين يتفقان في الخصائص والنتائج والأهداف كما جاء في التقرير الذي نشرته "الاقتصادية" في 7/3/2006 عن محاضرة ألقاها الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع عضو هيئة كبار العلماء في السعودية.
اليوم يبلغ حجم سوق التأمين في المملكة نحو 3.5 مليار ريال سنوياً ستزداد قريباً إلى نحو عشرة مليارات ريال سنوياً عند تعميم التأمين الصحي الإلزامي على المقيمين, ومن المتوقع أن يتضاعف هذا المبلغ إذا لحقت بهم أعداد كبيرة من السعوديين. ومن ثم أضحى وجود تنظيم لهذه السوق ضرورة ملحة، كانت اللبنة الأولى له صدور نظام مراقبة شركات التأمين التعاوني عام 2003 الذي أُسندت فيه إلى مؤسسة النقد العربي السعودي مسؤولية دراسة طلبات تأسيس شركات التأمين وإعادة التأمين قبل إحالتها إلى وزارة التجارة والصناعة ، كما أسند النظام للمؤسسة مسؤولية الإشراف والرقابة على أعمال هذا القطاع ومنحها صلاحيات واسعة تكاد تكون مطلقة في هذا السبيل . وأصدرت المؤسسة إثر ذلك اللائحة التنفيذية للنظام عام 2004 وضربت للشركات وممثليها كانون الأول (ديسمبر) من العام نفسه موعداً نهائياً لتقديم طلبات التسجيل. ثم بعد خمسة أشهر تقريباً من ذلك التاريخ حدث تطور جديد في تنظيم السوق بالسماح لشركات التأمين الأجنبية بفتح فروع لها في المملكة.
لكن بالرغم من صدور النظام ولائحته التنفيذية، وإفساح المجال أمام عدد أكبر من الشركات لممارسة أعمال التأمين، تعيش السوق مأزقاً واضحاً تناولته الصحف بشكل لافت للنظر في الآونة الأخيرة, ويُعزى هذا المأزق، على ما يبدو، إلى عاملين رئيسيين هما: بعثرة مسؤولية القطاع بين أكثر من جهة، وندرة الخبرات والأفراد المؤهلين في مجال التأمين لدى تلك الجهات. فهناك تضارب في الصلاحيات بين مؤسسة النقد ومجلس الضمان الصحي الذي يمارس بجانبها سلطة مطلقة أيضاً على تراخيص شركات التأمين, وقد أشار إلى ذلك نائب رئيس المؤسسة ("الاقتصادية" في 20/2/2006) . ثم هناك التباين في معايير تقييم أصول الشركات بين الجهة التي تدرس الطلبات وهي المؤسسة، وبين الجهة التي تصدر التراخيص النهائية بالعمل وهي وزارة التجارة والصناعة، وبين هيئة السوق المالية التي لها الكلمة الفاصلة فيما يخص طرح نسبة من رأسمال تلك الشركات للاكتتاب العام وما يسبقها من تحديد القيمة العادلة لأصولها ومن ثم علاوة الإصدار الملائمة. أما الجانب الآخر لتنظيم هذا القطاع وما يتطلبه من تدريب وتأهيل كوادر لإدارته، فحدّث عنه ولا حرج.
الشاهد في الموضوع أن قطاعاً اقتصادياً بهذا الحجم لا ينبغي أن يُترك على هذا الحال من التخبط تضيع فيه مصالح المستثمرين وقبل ذلك حقوق المواطنين. وفي تقديري أن التأمين يشكل ملفاً مهما يجدر بالمجلس الاقتصادي الأعلى تناوله لتنظيمه من جميع جوانبه بما يكفل حركته بمرونة وكفاية دون تداخل بين هذه الجهة وبين تلك. وإلى أن يتم إنجاز ذلك، قد يحسن النظر في إصدار قرار بتوحيد كامل مسؤوليات هذا القطاع في جهة واحدة، كما هو الحال في قطاع
البنوك، مع إعطاء أهمية قصوى للاستعانة بأعداد كافية من ذوي الخبرة في الأسواق العالمية التي أرست قواعد هذا العلم, بمعنى آخر لا تدعوا الفرصة للآخرين للسخرية منا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي