صعود القوى الجديدة إلى الحلبة (3)

هل يشهد عام 2006 نهاية التفرد الأمريكي؟

التحدث الآسيوي

في محاولة للإجابة عن هذا التساؤل علينا التوقف أمام ثلاثة تطورات, هي:
أولا, اتجاه الصين للدخول في أزمات دولية للسيطرة على القلاقل الداخلية.
ثانيا, نزعة روسيا لاستعادة مجالها الحيوي ونفوذها السياسي.
ثالثا, استخدام إيران لورقة الأسلحة النووية لتحقيق أهداف أهمها موازنة إسرائيل وردع الغرب عن تخويف العرب والمسلمين.
ومن الملاحظ أن الحرب في العراق لم تنته بعد, ولكنها لم تعد تهدد النظام العالمي, ويجمع المراقبون على توقع استمرار الاضطرابات والقلاقل وعدم الاستقرار في العراق, رغم أن رهان الولايات المتحدة هو تعيين حكومة قوية تستطيع تحقيق الاستقرار من ناحية, وتحكم العراق حسب مرئيات الولايات المتحدة.
وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن العالم بدأ يتطور بصورة تلقائية طبيعية ومعتادة, لأن الاستمرار في ظاهرة القوة الأحادية يتنافى مع إرث سياسي طويل وعادة استراتيجية درجت عليها البشرية. هذا التطور ينطوي على نزعة الصين ودول آسيوية أخرى لكي تؤسس مناطق نفوذ حيوي عبر سياسة استقطاب جديدة. ويتزامن ذلك مع رغبة أمريكا في الانسحاب من العراق كمقدمة للتراجع إلى حدودها وتراهن أمريكا على تعثر الاقتصاد الصيني الذي ـ رغم نموه بمعدل 9 في المائة قد يتأثر لتداخلات التخطيط مع المتطلبات الداخلية الكثيرة, ويحلم الأمريكيون بتدهور اقتصادي صيني لأن ذلك سيرغم الحزب الشيوعي على اتخاذ موقف الدفاع والدخول في صراع من باقي فعاليات وقوى المجتمع الصيني. هذا فضلا عن أي تدهور صيني سيتبعه تدهور في كل الاقتصاد الآسيوي. ويواجه الاقتصاد الصيني المشاكل التالية كما يصورها الإعلام الأمريكي:
أولا, مشاكل عدم كفاءة إدارة العديد من المشاريع.
ثانيا, الهوة بين المجتمع الحضري والمجتمع الريفي في الصين.
ثالثا, مشكلة الديون الفاسدة.
رابعا: تصاعد التطلعات الاجتماعية.
ولا يختلف المراقبون حول قدرة الصين على حل هذه المشاكل بل إنها قامت فعلا بحلها, ولكن مشكلة الصين أن النمو السريع هو الحل الوحيد لإبقاء الحال على ما هو عليه وتجنب الانهيار. وتجري في الصين موجة تصعيد للمشاعر الوطنية لمواجهة اليابان, ويشعر الصينيون أن من حقهم أن يتفاخروا بإنجازاتهم, بعدما كانت اليابان هي العبقري العملاق والقائد الأوحد لآسيا. ذلك لأن الصين تمضي قدما على درب الإنجاز والتفوق. وتتبع الصين سياسة التحاور مع الولايات المتحدة لتحييدها ومنعها من تأجيج الصراعات الداخلية. بحجة الحفاظ على حقوق الإنسان (خاصة بعدما اتضح للعالم أن واشنطن هي المنتهك الأول لحقوق الإنسان), كما تتطلع الصين إلى أحزاب المعارضة في تايوان حتى تقوض الحزب الديمقراطي الحاكم في تايبيه, كما أنها تتوسع في سياسات الطاقة على صعيد السعي للحصول على امتيازات استخراج وإنتاج جديدة أو على مستوى توزيع وتصدير واستيراد الطاقة من الهند وكازاخستان. وتكرس الصين حاليا الشعور "بالصينية" ودعمه ببرامج الفضاء ومواجهة اليابانيين ورفع مستوى الناتج المحلي والإعداد لأولمبياد سنة 2008.
وماذا أعدت الولايات المتحدة للصين على سبيل المقاومة والحيلولة دون صعودها؟
إن أول ورقة تلعبها الولايات المتحدة هي اليابان, التي ترى في صعود الصين تهديدا لها, وهو شعور تذكيه وتؤججه الولايات المتحدة, التي تستمرئ إيجاد أعداء إقليميين لكل من يعترض مصالحها. وتحاول اليابان الاستفادة من هذا الموقف بأن تسرع الخطى ـ برعاية أمريكية ـ لتكتسب صفة الدولة الطبيعية (ذلك أن اليابان منذ سنة 1945 يسري عليها عدد من القيود الخاصة بالتسلح والسياسة الخارجية وغيرها), أي أن تبدأ اليابان بناء جيش وأسطول وسلاح طيران قوي وأن تتخلص من الدستور الذي رسمه لها الأمريكيون منذ 60 عاما.. وأن تسرع الخطى اقتصاديا وسياسيا وأمنيا لتصبح لاعبا إقليميا مهما يواجه الصين. فهل توافق واشنطن على بروز اليابان للتصدي للصين؟ إن ذلك سيعني صراعا إقليميا هائلا بين الصين واليابان, سرعان ما يكون له صداه في الشرق الأوسط وشرق آسيا.
وثمة كابوس يخيف أمريكا يتمثل في احتمال تحالف الصين واليابان لإنشاء كتلة آسيوية قوية. وكثيرا ما كان التنافس والعداء مقدمة لتحالف وصداقة (فرنسا وإنجلترا اللتان تصادقتا بعد عداء طويل), ولكن ذلك مرهون بتوافق سياستيهما مع روسيا وتأمين الغاز الروسي, وعندئذ يتسير التعاون والتكامل ويسود الشعور الوطني والإقليمي في شرقي آسيا. ومن جانبها تواصل طوكيو في هدوء وثقة تطوير قدراتها الاقتصادية والسياسية والأمنية لكي تؤكد وضعها كقوة إقليمية وربما قوة عالمية. ويؤكد نزعتها لخلع ثوب الخنوع والتبعية في إصرارها على المشاركة الدولية في الأحلاف التي تقودها الولايات المتحدة, بهدف الحصول منها على صك يعطيها حق الانطلاق, وهو أمر وارد في حالة خوف أمريكا من الصين. وهنا قد تفكر أمريكا في جعل اليابان خط المواجهة الأول مع الصين, فتقوم اليابان باستقطاب الحلفاء والأنصار من بين الدول الآسيوية المهمة مثل ماليزيا وكوريا الجنوبية وفيتنام وتايلاند والفلبين, بحيث تحاصر الصين المعروفة حضاريا وتاريخيا بأنها أم الثقافة الآسيوية ومحور القوة في المنطقة. والمعروف أن غزو اليابان للصين قد ترك جراحا غائرة في الصينيين, ويذكرون بالألم فظائع اليابانيين ومذابحهم في نانكنج العاصمة الإمبراطورية للصين, ويتوقع المراقبون أن يزداد إيقاع التنافس بين الصين واليابان بتشجيع أمريكي حيث تخشى أمريكا جهود اتحاد جنوب شرقي آسيا الذي يبذل جهودا كبيرة لتشجيع التعاون الإقليمي على الصعيد الاقتصادي والأمني والسياسي. وهو أمر يتنافر معه إقبال القوى الآسيوية الكبرى على شراء الأسلحة وتطوير القدرات العسكرية ولا يقتصر التحدي الآسيوي على الصين فقط, أو احتمال ثنائية الصين واليابان, وإنما يمتد إلى دول مثل الفلبين وإندونيسيا وماليزيا التي تقع في فلك التحدي الإسلامي بل وكوريا الشمالية بإمكاناتها النووية التي قد تصبح حليفا صينيا يؤرق واشنطن إلى جانب تايلاند التي بدأت ترزح تحت ضربات الاضطرابات العرقية والدينية ورفض الأمريكيين.
ومن الواضح أن معاناة بوش في العراق ورضوخه للفكرة الإسرائيلية بأن إيران هي الخطر تليها سورية وحزب الله ونزوعه إلى الهيمنة على النفط في دارفور وتشاد وإفريقيا الوسطى والنيجر وجنوب السودان, قد أفرغ طاقته وأبعده عن كوريا الشمالية. بل إنه ترك ملفها لحليفته كوريا الجنوبية لتلعب ورقة الغذاء والمعونات الاقتصادية لترويض الأشقاء في الشمال بما يجعلهم يتناسون التهديد ويدخلون في المفاوضات ويبتعدون عن إملاءات عقلية الحصار.
وتحلم أمريكا بإحداث اضطرابات داخلية لكوريا الشمالية تحت الشعارات المتكررة (الحرية ـ الديمقراطية ـ حقوق الإنسان ـ إلخ), غير أن انعدام المصداقية الأمريكية في أفغانستان والعراق والانفصام في التعامل مع إفريقيا (الاهتمام بالدول ذات الاحتمالات النفطية ـ وتجاهل الفقراء مثل الصومال وسيراليون ورواندا وبوروندي) جعلا الكوريين الشماليين ينصرفون عن الشعارات التي يرددها عملاء واشنطن الذين تنفق عليهم بالمليارات من حصيلة ما تستنزفه من الدول الأخرى (العراق .. إلخ وهكذا نلاحظ أن المارد المختبئ في القمقم الآسيوي ليس مجرد تنين صيني يمثل مليارا وثلاثمائة مليون نسمة, بل هو قلعة ضخمة تضم جميع أنواع الأشباح والعفاريت السياسية. فهناك كوريا الشمالية والجنوبية بأحلام الوحدة والتوصل إلى دولة موحدة قوية يمكن أن تواجه اليابان والصين, وعلى ضوء التطور والنمو الاقتصادي فإن كوريا قادرة على ذلك. وهناك مجموعة الدول الآسيوية ذات الأغلبية المسلمة التي لا تنظر بالارتياح للهيمنة الصهيونية على القرار الأمريكي. وتتذكر كل من ماليزيا وإندونيسيا والفلبين ما حدث في كارثة ضرب أسواقها منذ عشر سنوات. وسوف تميل هذه الدول حتما إلى أول قوة تدير ظهرها لأمريكا في آسيا, وما علينا إلا تذكر مقولات محاضير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق وتحديه للنفاق الأمريكي, لنعرف أي مستقبل ينتظر أمريكا في آسيا. وهناك الهند التي تلعب على الحبال وهي تكره الجميع فهي ضد الصين (مشاكل حدود مزمنة) وضد باكستان وضد هيمنة اليابان الاقتصادية وضد الولايات المتحدة تاريخيا رغم الاتفاق النووي الأخير.
ولذا يحق لنا أن نزعم أن القوى الجديدة في آسيا آخذة في النمو وتمثل تهديدا كبيرا لأمريكا, وهذه سنن الحياة, فهناك من يكبر وهناك من يشيخ, ويبقى الاختلاف حول الفترة الزمنية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي