جسر أبحر .. والبدائل

وهب الله سبحانه وتعالى مدينة جدة ساحلاً بحرياً جميلاً يعد ثروة نادرة ومصدر رزق واسع لو أُحسن استغلاله وإدارته. يقدر طول ذلك الساحل بنحو 150 كيلو متراً معظمها لا يقدم شيئاً للمدينة واقتصادها إما بسبب التلوث الجائر, أو بسبب أخطاء تراكمت على مر السنين في غياب رؤية متكاملة لتنظيم استخدامات الواجهة البحرية لـ " أم الرخا والشدة " كما يحلو للجداويين أن يصفوا مدينتهم.
أحسب أن بعضاً من القراء لم يسمعوا من قبل عن خليج "شرم أبحر" ناهيك عن الجسر المزمع بناؤه لربط ضفتيه. لهؤلاء أقول إن خليج "أبحر" هو أحد الشواطئ الجميلة لمدينة جدة, بل ربما لا أبالغ إن قلت درتها. يقع الخليج في شمال المدينة على بعد يقل عن 30 كيلو متراً من وسطها التاريخي القديم. ويبلغ طوله 11 كيلو متراً تقريباً بعرض يتفاوت بين 300 ـ 500 متر. وكان إلى زمن قريب بعيداً عن نطاق العمران غنياً بأنواع شتى من الحياة الفطرية. لكن ذلك الحال ما لبث أن تغير بعد الانتشار التدريجي للسيارات ما شجع البعض منهم على قضاء إجازة يوم الجمعة والأعياد على ضفتي الشرم للاستمتاع بجمال الطبيعة في بيئة ساحرة, هادئة, ونظيفة. يومئذ, أي في نهاية الخمسينيات من القرن الميلادي الماضي, لم تكن هناك ملكيات أو حيازات خاصة تذكر على السواحل بل كان المبدأ السائد في الجلوس والمتعة "مناخ لمن سبق". بالطبع لم تخلُ تلك الرحلات من مصاعب لوعورة الطرق وكثرة السباخ وكان مألوفاً أن ترى السيارات غاطسة حتى نصفها هنا وهناك وحولها أصحابها في حالة فزع في انتظار من ينقذهم قبل أن يلفهم ظلام الليل. ولا يزال الكثير في جدة ممن عاصروا تلك الحقبة يختزن في ذاكرته مواقف طريفة من تلك الإجازات.
لم أكن أعرف أن "خليج أبحر" له دور قديم في حياة مدينة جدة وتجارتها حتى وقعت يدي على بعض المصادر. إذ كتب الرحالة ابن جبير الذي عاش في القرن السادس الهجري:
"أرسينا بمرسى يعرف بأبحر, وهو على بعد يوم من جدة, وهو من أعجب المراسي وضعاً وذلك أن خليجاً من البحر يدخل إلى البر والبر مُطيف به, من كلتا حافتيه, فترسي الجلاب منه في قرارة مكنة هادئة. فلما كان سحر يوم الإثنين بعده أقلعنا منه على بركة الله تعالى بريح فاترة, والله الميسر ولا رب سواه. فلما جنَّ الليل أرسينا على مقربة من جدة وهي بمرأى العين منا. وحالت الريح صبيحة يوم الثلاثاء بعده بيننا وبين دخول مرساها, ودخول هذه المرسى صعب المرام بسبب كثرة الشعاب والتفافها ".
اليوم اختلف دور الخور, وهو اسم آخر لخليج أبحر, فلم تعد ترسو به الجلاب القادمة إلى ميناء جدة بعد توسعة قنواته وتعميقها وتزويدها بوسائل إرشاد ملاحية تسمح بالإبحار من الميناء وإليه على مدار الساعة. وبالتأكيد لو قُدّر لابن جبير زيارة أبحر مرة أخرى في هذه الأيام لما عرفها. فقد ازدحمت ضفتا الخليج بالبنيان وكسر صمته ضجيج السيارات في البر وصخب الزوارق والدبابات في البحر, وقد صاحب ذلك تزايدُُ ملموسُُ في حوادث السير القاتلة وفقد الأرواح بين الشباب على مرأى من المتنزهين.
هناك هموم كثيرة تُشغل أذهان المجتمع في جدة, منها ما هو مشترك مع الآخرين كسوق الأسهم وإنفلونزا الطيور, ومنها ما تنفرد به جدة كالمجاري, المياه, المطار, حمى الضنك, والقبور. وكأن تلك الهموم لا تكفي إذ أُضيف إليها ملف إنشاء جسر لربط ضفتي خليج أبحر. وهي قضية, في تقديري, لا تحمل نفس الدرجة من الأهمية التي تحملها الملفات الأخرى, كما أنها لا تمس كتلك الملفات حياة كل مواطن إلا إذا سلمنا بأن البيئة ثروة يملكها الجميع وعلى كل فرد في المجتمع أن يدافع عنها. وأرجو من القارئ ألا يجد غرابة أو سخرية فيما لو قلت إن الحس البيئي بين أفراد المجتمع في جدة شهد في السنوات الأخيرة نضجاً. ولذلك تفسير بسيط وهو الحالة التي يجد الفرد نفسه فيها هناك محاصراً من كل جانب بمشكلات بيئية. لذا لم أفاجأ خلال زياراتي الأخيرة لمدينة جدة أن موضوع الجسر كان حديث المجالس على مختلف مستوياتها الثقافية والاجتماعية. لم يقتصر النقاش حول موضوع الجسر على المجالس فحسب, بل امتد إلى صفحات الجرائد بين مؤيد ومعارض كل يسوق حجة من هنا وحجة من هناك, وكان آخر ما طالعته من الكتابات الجيدة في هذا الموضوع مقالاً للدكتور غازي جمجوم ("عكاظ" ـ عدد 19/2/2006م) وآخر للدكتور أمين ساعاتي ("الاقتصادية" ـ عدد 5/3/2006م).
لا شك أن حماية البيئة أمر لا ينبغي التفريط فيه لاسيما في منطقة مثقلة ومرهقة كخليج أبحر, لكن في الوقت نفسه لا يجوز أن تُستخدم البيئة سيفاً لعرقلة أي مشروع فيه نفع عام إن عزًّت البدائل. قد يكون بناء جسر أبحر قراراً صحيحاً لكن هل يمكن القول عنه إنه قرار سليم ؟ بالطبع سيختصر الجسر المسافة بين ضفتي الخليج لكن ماذا عن ملاءمته في تحقيق ما أنشئ من أجله في المدى الطويل؟ ثم لابد من التسليم أن جسراً واحداً لن يكفي لنقل جميع الحركة المتوقعة مستقبلاً إذا أُخذ في الاعتبار مساحة الأراضي الممتدة شمال الخليج, فهل يا ترى ستُضاف جسور أخرى حينئذ مما يعني خنقاً تدريجياً للشرم وحرمان جدة من نافذة هي في أمس الحاجة إليها ؟ ثم من أين ستأتي حركة السيارات للطرف الجنوبي للجسر المقترح, ألن يكون ذلك عبر طريق الملك عبد العزيز؟ وهل من المصلحة خنق هذا الشريان أيضاً الذي يشكل محوراً أساسا بين وسط المدينة وشمالها؟
هناك بدائل لمشروع الجسر قد تكون أكثر كفاية منه على المدى الطويل وأقـل تكلفة, إن أُخذت كل عناصرها في الحسبان. من تلك البدائل التي تقدم نفسها في هذا الإطار إنشاء نفق بين ضفتي الخليج, وإن شئنا الابتعاد تماماً عن المساس بالبيئة البحرية, وهو الأسلم, يمكن النظر في إنشاء كوبري أو اثنين لنقل الحركة مباشرة من طريق المدينة المنورة السريع (عند مفرق الرحيلي وما بعده) إلى الطرق السريعة الموجودة حالياً وتخترق من الشرق إلى الغرب المخططات الواقعة في شمال أبحر بشكل متوازن. ويتميز هذا البديل الأخير بقلة تكلفته إنشائياً مقارنة بالجسر المقترح بين ضفتي الشرم, سهولة صيانته, إمكانية توسعته مستقبلاً, عدم تداخله مع ملكيات خاصة وما يترتب على ذلك من تعويضات, ثم والأهم من ذلك أن تأثيره على البيئة سيكون محدودا. وفي كل الأحوال لا بد من إخضاع الجسر وبدائله لدراسة مقارنة لا تقتصر على عنصري تكلفة الإنشاء والتشغيل فحسب, بل أيضاً تأخذ في الحسبان التكلفة الاجتماعية, تكلفة البيئة, والنمو الكبير المتوقع لحركة العمران شمال الشرم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي