أوسكار فلسطينية!؟!
من كان يصدق منذ سنوات قليلة أو منذ شهور معدودة أن فيلما فلسطينيا سيرشح لنيل درجة الأوسكار؟
والأوسكار كما هو معروف هي أعلى وسام يحصل عليه المبدعون في مجالات السينما المختلفة من تأليف إلى إخراج إلى تصوير إلى تمثيل إلى إنتاج إلى ماكياج إلى جميع العناصر الأخرى من موسيقى إلى ديكور إلى حوار.. إلخ.
وبالنسبة للثقافة الأمريكية التي لا تتمتع بعمق كبير, تعتبر الأوسكار إحدى القمم الشامخة, فهي تمنح لصناع ومبدعي السينما, والسينما هي الفن السابع وأم الفنون حيث يدخل في إنتاجها كل شيء من كلمة إلى أغنية إلى صورة إلى رؤية نقدية أو تحليلية, فضلا عن سبرها أغواراً عديدة في جميع المجالات العاطفية, الرومانسية, المأساوية, الفكاهية, الوصفية, التاريخية, التوثيقية, والغنائية.. إلخ.
الفيلم الفلسطيني المرشح بعنوان "الجنة الآن" للمخرج الفلسطيني فهد أبو أسعد, حصل على ثلاث جوائز ألمانية وجائزة أوروبية، وتدور أحداثه حول شابين يفكران في القيام بعملية استشهادية, وقد جاء قرارهما نتيجة لتأملهما في البدائل المحيطة وركز الفيلم كثيرا على بطش العدوان الصهيوني وصعوبة الحياة بسبب القمع الإسرائيلي والجهود المنتظمة لهذا المحتل اللئيم في جعل حياة الفلسطينيين جحيما مقيما لإرغامهم على قبول خطف وطنهم كحقيقة نهائية.
لكن الشابين، على قدر الضغط والقمع وتواصل الإيذاء والحصار وهدم البيوت وقتل الأبرياء والتجسس المستمر والتحقير المتواصل, يتخذان القرار الصعب وهو التضحية بشبابهما هروبا من جحيم الاستعمار وإمعانا في إيذاء الطغاة البغاة.
والجنة هي الهدف الأكبر للشهيد وعنوان الفيلم يكرس هذه الحقيقة. ولكن أكبر ما يلفت انتباه المهتمين بالسينما في العالم أجمع والعالم العربي بصفة خاصة أن فلسطين وضعت على خريطة الثقافة العالمية, وأن ترشيحها للأوسكار ممثلة بفيلم الجنة الآن يعني اعترافا من ألد الخصوم. فلا يخفى على أحد أن هوليوود هي الملعب الأرحب والأكبر لليهود, وأنها كانت قاعدة إطلاق صواريخ سينمائية تمجد اليهود وتشيد بإنجازهم وتدحض خصومهم وتحقر أعداءهم, وليس موقف الألمان في أكثر من ألف فيلم ببعيد حيث يظهرون كالأغبياء عديمي الخيال والأفق في ثوب القساة ويظهر اليهودي كسيرا أسيرا ذكيا إنسانا لا يريد إلا حياة آمنة. وتسابق نجوم السينما الأمريكيون على نفاق اليهود ونذكر إليزابيث تايلور, فرانك سيناترا, داني كاي, مارلون براندو, بول نيومان, فيكتور ماتيور, مايكل يورك, وحشدا بالمئات ممن جندتهم هوليوود, لبث أجندة دعائية في إطار سينمائي جذاب.
هوليوود هذه وهي عاصمة السينما والأوسكار تفتح الباب اليوم لفيلم فلسطيني.. علما بأن ماكينة الدعاية الصهيونية قد حرصت تاريخيا وباستمرار على محو اسم فلسطين من الخريطة وأطلقت أسماء عبرية على المناطق والمدن، فهذه جوديا (يهوذا) وهذه سيماريا (السامرة) وتلك هرتزيليا نسبة للرائد الصهيوني اللعين تيودور هيرتزل.. إلى آخره. وعندما برزت منظمة التحرير الفلسطينية اختصرها الإعلام الصهيوني في حروفها الثلاثة بالإنجليزية بي. إل. أو PLO, حتى لا يتردد اسم فلسطين مع ترديد عبارات حماس وفتح وربطها بالقتل العشوائي.. إلخ.
الآن تفتح هوليوود أبوابها وتعلم وسائل الإعلام عن وضع الفيلم الفلسطيني في قائمة الأفلام المرشحة.. فماذا حدث؟ وماذا تغير؟
لا يختلف اثنان أن إلقاء الأضواء على فيلم فلسطيني به اعتراف عالمي بهوية فلسطينية, لأن الثقافة هي القوام الأكبر للهوية والسينما على رأس المعطيات الثقافية في العالم, وهي التي تحظى بالاهتمام الإعلامي الأكبر فضلا عن أنها في حد ذاتها وسيلة هائلة التأثير. ولا ينكر أحد أن أمريكا صدرت صورتها عبر السينما وصنعت لنفسها مكانة مهيبة من خلال آلاف الأفلام التي أنفق على إنتاجها المليارات. وفي هذا المقام أذكر أن الولايات المتحدة أهدت كينيا أربعة آلاف فيلم والهدف هو صنع صورة الأمريكي الإيجابية في إفريقيا. وقد سخرت أمريكا آلاف النجوم السود لمخاطبة الأفارقة بعدما شكا هؤلاء من أن الأبيض هو المميز والسوبرمان, ويسارع البعض للقول إن تسليط الأضواء الهائلة على فيلم يتحدث عن "الانتحاريين" هو محاولة غربية لتفهم ثقافة فضلت الموت على الحياة في سبيل غاية.. وهو أمر يصعب على الغربي الابن البار للثقافة المادية وعشق الحياة والسعي المستمر للاستمتاع بالرخاء ومعطيات المال أن يفهمها أو يستوعبها. من هذا المنطلق فإن الفيلم يقترب من فكرة "طرزان" الأبيض الذي يحاول اكتشاف الأحراش في إفريقيا.
ونظرا لإجماع الغرب على رفض فكرة الموت "مع الآخرين" كورقة سياسية فإن ترشيح الفيلم للأوسكار يطرح تساؤلات عديدة:
أولها: هل السينما فعلا مؤسسة ثقافية بعيدة عن السياسة؟
ثانيها: هل السينما تعمل من أجل الإجابة على تساؤلات الناس بتقديم الجديد الذي يميلون إلى التعرف على دقائقه؟
ثالثها: هل الفيلم فنيا وإبداعيا وتمثيلا وتصويرا وإخراجا على المستوى الذي يضع الفيلم في مكانة تناطح كبار المبدعين الذين يتنافسون على هذا الشرف الكبير؟
رابعها: أم أن صعود حماس صاحبه رغبة في التعرف على ما يصر الغرب أنه ملعب حماس الأوحد وهو التفجير, ولذلك فإن الفيلم يحقق مأربا سياسيا؟
ولكن سواء قبلته للقمة وتوجته بالجائزة المرجوة, أو فضلت عليه أفلاما أخرى, فإن عصر النظر إلى الفلسطيني على أنه المتخلف والإرهابي عدو الحياة بدأ ـ تحت مطرقة المبالغة ـ يتداعى ويبدأ عصر أكثر تفتحا وأعظم استعدادا لممارسة بعض الموضوعية, التي نأمل أن تنتقل إلى ساحات السياسة والاقتصاد.
ويبقى موقف إسرائيل جديرا بالرصد والمتابعة, وأغلب الظن أنها ستركب الموجة لتقدم دليلا على "تسامحها" وتحضرها, وربما تزعم أنها المنتج الأساسي للفيلم.