الإساءة الدنماركية

رفض رئيس الحكومة الدنماركية استقبال سفراء الدول الإسلامية لتقديم احتجاج على ما نشر من رسوم كاريكاتورية تسيء إلى نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام بحجة عدم التدخل في حرية الرأي والتعبير. ولأن الأمر له علاقة بهذه الحرية "المقدسة" المدعاة, كما يتعللون بها, فلا حاجة ولا داعي, من وجهة نظره, للاعتذار لأكثر من مليار مسلم جرحت مشاعرهم الدينية بإسفاف عنصري مقيت وتعد صارخ وبإسفاف غير مسبوق على عقيدة أمة كاملة, وبهذا تكون الحكومة الدنماركية مشاركة في هذه السقطة العنصرية لرفضها إبداء أي رد فعل رافض للإساءة لمعتقد ديني, بل حماية هذا الفعل المشين بتحصينه بحرية الرأي والتعبير.
لم يطلب من الحكومة الدنماركية أن تغلق وتعاقب تلك الصحيفة وتحولها إلى المحاكمة ورسامها الساقط وكأنهما شككا مثلا في حقيقة الهولوكست اليهودي الذي لا يدخل التشكيك فيه ضمن تلك الحرية التي استندوا إليها في تبرير التهجم على رسول الله, صلى الله عليه وسلم, حيث يعتبر هذا التشكيك جريمة كبرى لا تغتفر ولا تحمي فاعلها لا حرية رأي ولا تعبير, بل طلب منهم فقط الاعتذار, كما فعلت الخارجية النرويجية بعد إعادة صحيفة نرويجية نشر تلك الرسوم, واعتبار أن ما أقدمت عليه تلك الجريدة الدنماركية وخطه ذلك الرسام الساقط سلوكا لا يعبر عن الدنمارك ومرفوضا منها ومدانا. هذا ما طلب بكل بساطة وهدوء, إلا أن رفض الحكومة الدنماركية الاعتذار بحجة واهية تمسحت بها وهي حرية التعبير يعكس استهتارا بمشاعر المسلمين جميعا وعدم اكتراث لردة فعلهم, وهذا ما أثار المملكة مثلا ودفع بها لاستدعاء سفيرها من هناك في رسالة واضحة وجلية على أنها مقدمة لإجراءات أخرى, وهو ما أدى للإعداد لعقد اجتماع على مستوى الدول الإسلامية لمناقشة الموقف من الدنمارك إذا ما استمرت على إصرارها باعتبار الإساءة لرسولنا عليه الصلاة والسلام حرية رأي وتعبير وليس بذاءة عنصرية.
نحن كمسلمين لا نفرض على الدنماركيين ولا على غيرهم في أوروبا وخارجها أن يؤمنوا بنبينا, عليه الصلاة والسلام, على أنه خاتم الأنبياء وأنه مرسل من الله سبحانه وتعالى, كما نؤمن نحن المسلمين بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام, فهذا شأنهم الذي يدخل في باب حرية العقيدة على هدي قوله تعالى "لكم دينكم ولي دين" وقوله "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" صدق الله العظيم. لأن الإيمان والكفر حسابهما عند الله وليس عند البشر, لا نطلب منهم ذلك لأننا لا نريد أن نفرض الإيمان على أحد, ولكن نطلب منهم, ونصر على ما نطلب, أن يحترموا مشاعر وإيمان أكثر من مليار إنسان مسلم تأذوا من هذا العدوان المعنوي والتطاول الخطير على رمز المسلمين, ولأن المسألة فيها تعد وإساءة لمشاعرهم فإن الأمر لا علاقة له بحرية التعبير والرأي كما تبجحوا وبما هو أقبح من الذنب.
السؤال الآن: كيف نرد على هذه الإساءة التي وجهت لرسولنا, صلى الله عليه وسلم؟ يجب ألا يأتي ردنا غوغائيا انفعاليا، فالإساءة وجهت لشخص الرسول, صلى الله عليه وسلم, بكل ما يمثله لنا كمسلمين من قيمة، ولهذا فليس المطلوب أن تنفجر مظاهرات صاخبة تتحول إلى حرب شوارع كما يحدث في بعض البلدان وتستمر ليوم أو يومين ثم ينتهي الأمر، ولا أن يشن إعلامنا حملات تنديد لن تصل إلا إلى مسامعنا وحدنا، المطلوب أن يكون رد فعلنا منظما متصاعدا ومؤثرا داخل العالم الإسلامي وخارجه، وأكثر الردود فاعلية داخليا هي حملة المقاطعة للبضائع الدنماركية التي فعّلت في المملكة شعبياً، فهذا الرد هو أبلغ وأقوى من ألف مظاهرة لا تتعدى كونها رد فعل صوتيا أجوف لا قيمة له، فالمقاطعة الاقتصادية الشعبية هي أفضل وأقوى تعبيرا في مثل هذه الحالات لأنها توجه رسالة عملية مؤثرة، أيضا يمكن أن توجه جمعيات المجتمع المدني والشخصيات الفاعلة في كل المجالات خطابات ليس فقط تنديدا واستنكارا بل خطابات توضح خطورة ما أقدمت عليه تلك الجريدة وارتكبه ذلك الرسام الساقط لسفراء الدنمارك في كل عاصمة دولة إسلامية، إلى جانب الموقف الحكومي الذي عليه اتخاذ إجراءات دبلوماسية تعكس ضغط الرأي العالم الإسلامي. أما خارجيا فيمكن لنا دعم المنظمات الإسلامية ليس في الدنمارك فقط بل في أوروبا كلها للقيام بحملة احتجاج منظمة وسلمية، ومن ذلك طبع نشرات وكتيبات صغيرة توضح للرأي العام الدنماركي والأوروبي مبلغ الإساءة التي وجهت لرسولنا عليه أفضل الصلاة والسلام وتوزع في محطات المترو والحافلات والأماكن العامة، وتبين الأضرار الاقتصادية التي يمكن أن تنتج من ذلك، فالتحرك الفعال والمنظم والهادئ هناك حتى ولو كان قليلا فهو أمضى من أي صراخ وصخب نحدثه هنا فقط.
بقي القول إن الاهتمام بما تعرض له رسولنا عليه الصلاة والسلام واجب على كل مسلم، فالإساءة وجهت لأكبر وأهم رمز للإسلام والمسلمين بما فيها من تجريح عنصري مقيت يؤدي بلا جدال إلى إشاعة الكراهية، ولعل هذا الحدث يكون بداية لحراك على مستوى العالم الإسلامي، واختبارا عمليا لفاعلية قرارات القمة الإسلامية الاستثنائية التي عقدت أخيرا في مكة المكرمة، فالعالم الإسلامي الرسمي والشعبي مطالبون بتوظيف ردة الفعل الغاضبة لكي يقال للعالم إن هناك خطوطا قانية بحمرة الدم لا يجب تجاوزها تحت أي مبرر ومهما كان الخلاف والاختلاف، خصوصا أن الإسلام يتعرض ومنذ سنوات مضت لحملة تشويه بإلصاق الإرهاب به.
في آخر لحظة من كتابة هذا المقال فوجئت بل فجعت بما صرح به كرزاي رئيس أفغانستان الذي اختار هذا الوقت غير المناسب لزيارة دولة أسيء في إعلامها لنبي الأمة, بأنه راض تماما عن التفسيرات التي قدمتها الدنمارك, لافتا إلى حرية الصحافة, كما جاء في جريدة "الوطن", وقلت يا ليت هذا الكرزاي صمت, فالصمت منجاة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي