الاختلافات حول الإرهاب: (2) اتجاهات متباينة في التفسير
إن التحديد الدقيق والمقارن للمراحل الزمنية التي تتم فيها العمليات الإرهابية وكذلك المناطق التي تقع فيها، يمثل المدخل الأول لمعرفة الأسباب والدوافع الحقيقية وراءها. وبعد ذلك يأتي الحديث عن تلك الأسباب والعوامل المقترحة لتفسير نشأة وتطور ظاهرة الإرهاب، وهو ما يجب أن يبدأ أولاً بالإقرار أنه لا يوجد نوع واحد من العوامل والأسباب.
كما ذكرنا في المقال السابق، فإن التوافق الدولي شبه العام حول التعريف النظري للإرهاب لم يمنع من وجود عدد كبير من الاختلافات الحقيقية التي تبدأ وتتصاعد عند محاولة تطبيق هذا التعريف النظري، أو غيره، على الوقائع والأحداث، تتركز بصفة خاصة ما بين العالم العربي والإسلامي والعالم الغربي بكل ما يحتويه كل منهما من شعوب ونخب سياسية وفكرية وإعلامية.
ويتركز النوع الثاني من تلك الاختلافات العميقة حول طبيعة الأسباب والدوافع والجذور التي تؤدي إلى نشأة وتطور ظاهرة الإرهاب، حيث نشهد في ذلك الإطار وخلال السنوات الأخيرة ثلاثة اتجاهات رئيسية لتفسير ظاهرة الإرهاب المرتبطة ببعض الأفكار والجماعات الإسلامية. كما يوضح تحليل تلك الاتجاهات الثلاثة، فإن بعضها أقرب للتبني في العالم العربي والإسلامي، في حين يشيع البعض الآخر بصورة أكثر في العالم الغربي. ويستند الاتجاه الأول، الذي يشيع أكثر في العالم الغربي وبصورة أقل في العالم العربي والإسلامي، في تفسيره إلى وجود أسباب تتمثل أساساً في الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الحادة التي تعيشها معظم الطبقات الوسطى والفقيرة في المجتمعات المسلمة، فضلاً عن الانسداد السياسي طويل الأمد والفساد وما يجتاح قطاعات الشباب من إحباطات واسعة بسبب كل ذلك، خاصة ما يتعلق بهم من أزمات، أبرزها البطالة والشعور بالظلم الاجتماعي.
ويرى الاتجاه الثاني، الذي يشيع أكثر في العالم العربي والإسلامي، أن تلك الظاهرة ترتبط مباشرة بما يجري في المناطق العربية والإسلامية من أحداث كبيرة خلال الأعوام، أبرزها احتلال أفغانستان ثم العراق، فضلاً عما يجري للفلسطينيين من قمع يومي على يد الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، الأمر الذي يؤدي بقطاعات من الشباب إلى انتهاج الإرهاب كوسيلة للاحتجاج. أما الاتجاه الأخير، الذي يشيع بصورة واضحة في العالم الغربي، فهو يرى أن سبب الإرهاب الرئيسي هو وجود أفكار متطرفة ذات طابع ديني اتسع انتشارها بين قطاعات الشباب في مختلف الدول العربية والمسلمة، وأيضاً خارجها، نتيجة هيمنة الطابع الديني المحافظ والمتشدد على تلك الدول في السنوات الأخيرة وبث أصحابه أفكار التطرف والتشدد بين الشباب عبر مختلف وسائل الاتصال والإعلام وتحريضهم الدائم لهم على القيام بعمليات عنف وإرهاب ضد "الآخر" المختلف.
والحقيقة أن مثل تلك الخلافات في القراءة والتفسير والتوقع ليست غريبة عن طبيعة التحليل الاجتماعي والسياسي للأحداث والتطورات والظواهر، بل هي من لوازمه وربما تعد أحد أهم خصائصه التي توفر له مقومات التطور الصحي والشروط العلمية الضرورية لاستمراره فعالاً وناجحاً في التوصل لنتائج أقرب للدقة وللصحة لما يتناوله من أحداث وتطورات وظواهر. ومع ذلك فإن للتحليل العلمي الاجتماعي والسياسي نفسه قواعد أساسية يجب الالتزام بالحد الأدنى منها حتى يمكن لمثل تلك الخلافات في القراءة والتفسير، والتوقع أن تتحول لاتجاهات حقيقية ذات طابع علمي مستقر وليست مجرد اختلافات تقوم على الهوى الفكري أو السياسي أو الأيديولوجي. والحقيقة أيضاً أن عدداً لا بأس به من التحليلات، وما ترتب عليها من اتجاهات، التي انتشرت لوقائع العنف والإرهاب الأخيرة في العالم لم يضع في اعتباره ذلك الحد الأدنى من القواعد المشار إليها، مما رمى بها إلى هوة التعميم المتعسف أحياناً أو الابتسار المخل أحياناً أخرى.
والحقيقة أن السؤال المركزي المزدوج المفترض أن يجاب عنه أولاً ويمثل المدخل المنطقي لمعرفة أسباب ودوافع ظاهرة الإرهاب هو: لماذا الآن ولماذا هنا؟ ففي أحيان كثيرة بدا البعدان الزمني والمكاني اللذان تجري ضمنهما العمليات الإرهابية غائباً أو غائماً، وهو الغياب الذي أدى في معظم الأحيان إلى التورط في تقديم أسباب ودوافع ليست هي المسؤولة حقيقة عن ظاهرة الإرهاب.
إن التحديد الدقيق والمقارن للمراحل الزمنية التي تتم فيها العمليات الإرهابية وكذلك المناطق التي تقع فيها، يمثل المدخل الأول لمعرفة الأسباب والدوافع الحقيقية وراءها. وبعد ذلك يأتي الحديث عن تلك الأسباب والعوامل المقترحة لتفسير نشأة وتطور ظاهرة الإرهاب، وهو ما يجب أن يبدأ أولاً بالإقرار أنه لا يوجد نوع واحد من العوامل والأسباب يكمن وحده وراء تلك الظاهرة. وهنا فإن الاتجاهات الثلاثة السابقة الساعية لتفسير تلك الظاهرة في حالتها الإسلامية الراهنة يمكن النظر إليها جميعاً باعتبارها صحيحة ويعد استبعاد أي منها في التفسير خطأ علمياً يصعب قبوله. إلا أن هذا القبول لتلك الاتجاهات يجب أن يقترن بضرورة وضع الأسباب والدوافع الواردة في كل منها بطريقة تبدو فيها مرتبة بحسب نسبة وأهمية إسهام كل منها في نشأة وتطور ظاهرة الإرهاب بالصورة التي تمت بها وفي المكان الذي تشكلت فيه، وليس مجرد الاقتصار على سبب وحيد أو سوق كل الأسباب والعوامل في سياق واحد لا تظهر فيه الفوارق بين أهمية ودور كل منها، وهو الأمر الذي يؤدي إلى نتائج خاطئة في فهم الظاهرة.
من هنا فربما يكون الأكثر جدوى وفعالية في عالمنا اليوم للتوصل إلى حلول جذرية وحقيقية لنوعي الاختلافات السابق ذكرها هو التوافق الدولي أولاً عن طريق الأمم المتحدة حول تعريف نظري للإرهاب ثم الانتقال بعد ذلك إلى تطبيق هذا التعريف على الوقائع المعاصرة التي يشهدها العالم لتحديد ما هو إرهابي منها وما هو غير ذلك، وأيضاً تطبيق التعريف نفسه على المنظمات والجماعات والدول المتهمة بممارسة الإرهاب للتوصل إلى قائمة دولية موحدة لها. كذلك يبدو ضرورياً أن يتم تشكيل مجموعات بحثية دولية تستخدم كل آليات البحث العلمي الاجتماعي والسياسي المعتمدة لدراسة حقيقة الأسباب والدوافع التي تكمن وراء الظواهر الإرهابية في مختلف المراحل والعهود، والسعي إلى تقديم نتائج وخلاصات تلك الدراسات إلى المنظمات والهيئات الدولية ذات الصلاحية للاستفادة منها في معالجة تلك الظاهرة.