حتى لا يفقد موسم الحج أهدافه السامية .. رؤية للتأمل

في كل موسم من مواسم الحج نضع أيدينا على قلوبنا خوفا ووجلا مما قد تحمله مراحل أداء المناسك من أحداث, سواء كنا مسؤولين مباشرين للجهود, أو حتى مواطنين عاديين, فكلنا نحزن عندما تطغى أنباء حادثة ما, ونرى وسائل الإعلام المختلفة تتسابق إلى إبرازها وترديدها متجاهلة الجهود العظيمة الموفرة لإنجاح الموسم, وغدا الوجل والترقب سمتين من سمات الموسم العظيم في السنوات الأخيرة, ليس من نقص أو قصور في الاستعدادات والإمكانات التي تقوم بها أجهزة الدولة, والتي يشهد بها جميع من زار الأماكن المقدسة حاجا أو معتمرا أو زائرا, ولكن من حصول حوادث لا يتوقع أحد كيف تقع, ولا من أين تأتي, فلم يكن أحد مثلا يتوقع حادثة انهيار فندق على مَن فيه ومن حوله, أو حادثة التدافع الذي أسقط المئات.. وليس أسوأ مشهدا من أن يقتل المسلم أخاه المسلم في ساحة عبادة وخشوع, لا ساحة معركة!!
وأخشى ما أخشاه أن نزيد استعداداتنا وإنفاقنا الهائل على التطوير والتوسعة والبناء, ثم نجد الحوادث تتسلل إلينا من أبواب لم نحسب لها حسابا, إذ بمقدورنا توسعة الأماكن, وبناء الطرق, ومد الجسور, وحتى إزالة الجبال من مكانها, ولكن الشيء الذي ليس بمقدورنا القيام به هو تعديل سلوك الناس وتهذيبه والنهوض به إلى مصاف قدسية الزمان والمكان, وما يتطلبه المشهد العظيم من خشوع ورأفة وتآخ وإشفاق على العاجز والضعيف, والأخذ بيده ومساعدته, لا إيذاءه وقتله, والمشي على أشلائه!! هذا والكل يتلو كتاب الله ومنه قوله "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا",.. كيف يتأتى لنا تهذيب أخلاق فئات متنافرة من البشر تربية وثقافة وسلوكا خلال برهة وجيزة, في وقت لم تستطع فيه دولهم أن تسهم بشيء في ترسيخ مفهوم أخلاق المسلم في وجدانهم؟!
لقد تحول موسم الحج, أو كاد, مع مرور الوقت, وموسما بعد موسم, إلى اقتتال وتضارب, وتزاحم وشتم وسباب, واختلاف بين علماء المسلمين أنفسهم حول كيفية أداء المسلم لنسكه, ووقت ذلك, وتضارب في الرؤية والفتوى بينهم, وكأن الحج أمر مستحدث لم يشرعه الخالق قبل 14 قرنا!!
وبدلا من أن يكون الحج رحلة روحانية يتفرغ فيها المسلم للعبادة ويتجه فيها بكل جوارحه إلى مقابلة خالقه في أبهى حلة من نقاء السريرة, وإخلاص القصد, وصدق المعتقد, نجد أن الرحلة قد تحولت إلى عناء ونصب، الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود, وبدلا من أن يروي الحاج لأهله, بعد عودته, ما شهده وعايشه من قدسية المكان وهيبة المناسبة, ونشوة الإيمان, والغبطة والرضى بما وجده من تآخ وانصهار بين المسلمين في بوتقة توحد القصد والهدف, وما أسفر عنه ذلك المؤتمر الكبير, من تآخ وتواص وعبر كلها تدعو إلى توحيد الكلمة والموقف, نجد الحجاج منشغلين برواية ما تعرضوا له وما عانوه وشاهدوه من تدافع ومشاحنة وتخاصم بين بعضهم البعض, خرجوا بسببه وهم أكثر فرقة وتنافرا, الأمر الذي قد يصرفهم عن تذكر ما وفرناه من مرافق وخدمات وتسهيلات صرفنا عليها دون حساب من أجلهم!!
ولأننا لا نريد لذلك أن يحدث, ولا لما حدث أن يتكرر, وحتى لا يطغى ويغطّي ويغمط ما وفرناه من إمكانات وجهود خارقة تُستنفر لها كل القوى والطاقات في وضع أشبه بحالات الطوارئ, بدءا بالاستقبال وانتهاء بالتوديع, فإننا يجب أن نتأمل من جديد في كل العوامل والمسببات التي يمكن أن تتسلل من خلالها الحوادث, سواء كانت معزوّة إلى محدودية المكان والزمان, أو إلى التخطيط والتطبيق, أو إلى الحجاج أنفسهم, وأن نستحضر كل الاحتمالات القريبة والبعيدة التي يمكن أن تأتي بسببها الحوادث.
لقد كان للإعلام الوطني, والمرئي منه بخاصة, دور بارز هذا العام في نقل صورة حية طوال ذروة الموسم في كل المشاعر, نقلت المسلمين في جميع أنحاء العالم إلى رحاب المناسبة وروحانيتها بشكل لم يألفوه من قبل, وجعلت الكل يتابع ويشهد ويراقب أفواج الحجيج تنتقل من مشعر إلى آخر, وسجلت بالنقل الحي مشاهد الزحام والتدافع, ومحاولات قوات الأمن والمنظمين السيطرة والتحكم ومنع وقوع الحوادث.
لقد تحدثت وناقشت مع كثيرين من شرائح متنوعة من المجتمع في أسباب ما حدث, وما يمكن أن يحدث في المستقبل, وما يمكن عمله لتفادي ما يعكر صفو المناسبة وهيبتها, وخرجت بالأفكار والتأملات الآتية التي أرجو أن تسهم في مساعدة المسؤولين على تلمس أنجع الوسائل والسبل لإعادة النظام والانضباط والتنظيم إلى هذه المناسبة الجليلة.
1 ـ لا بد من محاولة السيطرة على عدد الحجاج الذين يسمح لهم بالحج, وتحديده بطرق علمية, في ضوء محدودية المكان, وبخاصة مشعر مِنى, وذلك بتحديد مساحة المكان الصالح للإقامة بالأمتار المربعة, وتحديد ما يحتاج إليه الحاج من مساحة للإقامة والمبيت في ظروف صحية ملائمة, ثم تحديد عدد الحجاج الذين يمكن قبولهم على هذا الأساس, ومن ثم يجري إعادة توزيع النسب على الدول كافة في ضوء ذلك.
2 ـ عدم السماح بالحج أكثر من مرة ما لم يمض على آخر حج عشر سنوات, وليس خمسا كما هو مطبق بالنسبة للمملكة, وذلك لإتاحة الفرصة أمام من لم يحج لأنه أولى, والتأكيد على الدول الإسلامية الالتزام بذلك بالنسبة لحجاجها, بما فيها المملكة.
3 ـ احتساب من يحج من رعايا الدول المقيمة في المملكة ضمن الحصص المخصصة لها ... يمكن معرفة ذلك بالإعلان مبكرا لمن يرغب الحج ممن تنطبق عليه الشروط, وحصر الراغبين, وإبلاغ الدول بأعدادهم, وخصمها من حصصهم قبل إصدار تأشيرات الحج.
4 ـ التأكيد على الدول الإسلامية بإبلاغ حجاجها عدم اصطحاب الأطفال خوفا على صحتهم وحياتهم, وخصوصاً وأنهم لم يبلغوا سن الوجوب, ولن يدركوا معنى الحج.
5 ـ التأكيد على شركات العمرة ووكالات السفر بضرورة إعادة المعتمرين قبل بدء موسم الحج, وعدم السماح لهم بالبقاء إلى الحج, مع تحديد تاريخ يسبق بداية موسم الحج يتوقف عنده قدوم المعتمرين.
6 ـ عقد مؤتمر على مستوى وزراء الحج ووزراء الشؤون الإسلامية في الدول الإسلامية يكون موضوعه (التوعية بالحج) ويكون الهدف منه التأكيد والالتزام بتوعية الحجاج بأسلوب أداء المناسك, وما يتطلبه من هدوء وسكينة, وتعاون وتآخ, وتجنب للمشاحنات والمزاحمة, على أن يبدأ ذلك في وقت مبكر قبل الموسم, وتكون هناك برامج بلغات متعددة يشرف على تطبيقها سفراء المملكة في الدول الإسلامية الذين ينبغي أن يكون لهم دور واضح ومسؤولية محددة في ذلك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي