الإخوان المسلمون في مصر: تمايزات الأجيال والتوجهات
تمر جماعة الإخوان المسلمين المصرية في الوقت الراهن بواحدة من أكثر مراحل تاريخها الطويل أهمية وحساسية، حيث تواجه عدة قضايا وملفات شائكة بداخل الجماعة وخارجها عليها أن تحسم الموقف تجاهها في أسرع وقت ممكن. وقد كان نجاح الجماعة الكبير والمفاجئ في الانتخابات البرلمانية المصرية وحصولها على خُمس مقاعد مجلس الشعب هو الذي دفع إلى سطح الجدال العام في المجتمع السياسي المصري وإلى صفوف الجماعة الداخلية تلك الملفات والقضايا لكي يبدأ البحث حولها والسعي نحو البت فيها. وبعيداً عن الملفات والقضايا العامة التي يجب على الجماعة التوصل لموقف تجاهها، فهي مواجهة بقضايا وملفات داخلية مهمة للغاية بعضها يرتبط حسمه بتلك القضايا والملفات الخارجية.
ومن بين تلك القضايا والملفات الداخلية تبرز اثنتان يمكن اعتبارهما الأكثر أهمية وتعقيداً، وهما العلاقة بين أجيال الجماعة، والعلاقة بين قياداتها العليا وعضويتها في المناطق الحضرية وبين قياداتها وعضويتها المحلية في المناطق الريفية وشبه الريفية التي تتمثل في العلاقة بين تصورين مختلفين أحدهما يمكن وصفه بالمنفتح والآخر بالأكثر محافظة، وهما قضيتان متداخلتان في كثير من جوانبهما وأبعادهما.
فيما يتعلق بالقضية الأولى، فالجماعة تضم حالياً ثلاثة أجيال رئيسية: الأول هو الذي شارك في الجماعة منذ سنوات الأربعينيات والخمسينيات وتتراوح أعمار المنتمين إليه حول الـ 70 عاماً في الوقت الراهن، بينما يتمثل الجيل الثاني فيمن انضموا للجماعة في سنوات السبعينيات وأوائل السبعينيات وتتراوح أعمارهم حالياً حول الـ 50 عاماً، بينما يتمثل الجيل الثالث في هؤلاء الذين التحقوا بالجماعة في سنوات التسعينيات وتتراوح أعمارهم بين العشرينيات والثلاثينيات. وبصورة عامة يمكن القول إن الحديث عن وجود تمايزات بين الأجيال في داخل الجماعة إنما ينصب بالأساس على تلك الموجودة بين الجيل الأول من جهة والجيل الثاني والثالث من جهة أخرى، حيث يقترب الجيلان الأخيران من بعضهما بعضا في كثير من الخصائص والسمات. فالجيل الثاني تشكل أساساً من طلاب الجامعات المصرية وبخاصة في القاهرة والوجه البحري والإسكندرية في السبعينيات الذين انضموا إليها في ظل مناخ إسلامي عام تبنته وأشاعته الدولة الساداتية في سنواتها الأولى. وقد كانت تلك الفترة هي بداية "مرحلة التأسيس الثاني" للجماعة لأنها أتاحت لها جذب هذه الأعداد الوفيرة من تلك الشريحة الاجتماعية الأكثر نشاطاً لكي تجدد بهم صفوفها بعد أن تجمدت تقريباً - بسبب ظروف الصدام الواسع مع النظام الناصري - عند الجيل الذي أسهم في تأسيسها الأول نفسه.
وبعد اغتيال الرئيس السادات في تشرين الأول (أكتوبر) 1981 وبدء تفكك حالة التوتر والتصعيد التي خيمت على مصر خلال أعوام حكمه الأربعة الأخيرة راح أبناء ذلك الجيل الجديد الذين ضمتهم الجماعة ينشطون في إعادة تأسيس الجماعة وبنائها بعد أن تخرجوا من الجامعات وصاروا أبناء مهن ذات وزن في المجتمع. وخلال السنوات التالية التي تقارب الـ 20 استطاع هذا الجيل أن يحقق للجماعة على المستوى السياسي والنقابي في مصر ما لم يتحقق لها من قبل طيلة تاريخها السابق. وقبل كل ذلك، فقد نجح أبناء الجيل الثاني في أن يضموا جيلاً ثالثاً للجماعة يصغرهم ما بين 20 و25 عاماً من خلال نشاطاتهم النقابية والسياسية والإعلامية والطلابية، وبخاصة بعد أن زاد بريق الجماعة المعتدل في ظل تراجع وزن وجاذبية جماعات العنف الإسلامي المتشددة بدءاً من النصف الثاني للتسعينيات.
في ظل ذلك يبدو واضحاً اليوم أنه على الرغم من اشتراك الجيلين الأول والثاني في انتمائهما إلى الشرائح الوسطى من الطبقة الوسطى الحضرية والريفية المصرية، فهما يختلفان إلى حد بعيد في الخبرة والعلاقة مع الدولة والقوى السياسية الأخرى. فالجيل الأول نشأ سياسياً وانضم للجماعة في مرحلة ما قبل ثورة تموز (يوليو) 1952 أو بدايتها وسط اختلافات ومصادمات الجماعة مع مختلف القوى الوطنية المصرية بالرغم من اتفاق المقاصد على استقلال البلاد من الاحتلال البريطاني. ولم يكد معظم أبناء ذلك الجيل يخطون نحو الثلاثينيات من أعمارهم حتى كانت الجماعة تخوض أولى مصادماتها الدموية مع الدولة والتي فقدت فيها مؤسسها ومرشدها الأول الأستاذ حسن البنا عام 1949. وما هي إلا أربعة أعوام أخرى حتى دخل أبناء الجيل نفسه صدامهم الأوسع من نظام تموز (يوليو) الثوري الجديد الذي كلف معظمهم نحو 20 عاماً من السجن أو النفي الاختياري والإجباري أو الاستبعاد من الحياة العامة. ولم يكن لتلك الخبرة المبكرة والطويلة سوى أن تطبع ذلك الجيل بخصائص واضحة في علاقته المضطربة بالقوى السياسة المعارضة الأخرى وشكوكه في إخلاصها لتعاقداتها وتحالفاتها فضلاً عن عدائه الشديد لبعضها البعض، وتخوفاته وحذره المستمرين من الدولة التي زادت مواقفها تجاه الجماعة خلال السنوات العشر الأخيرة من عمقها واتساعها.
أما الجيل الثاني، فقد بدأ خبرته مع الجماعة في النصف الثاني من السبعينيات في الجامعات المصرية حيث تشارك أبناؤه مع عديد من نظرائهم في القوى السياسية الأخرى في صياغة حركة طلابية واسعة معارضة لسياسات الرئيس السادات وبخاصة الخارجية منها، بالرغم من نشوب خلافات عديدة بينهم وصلت أحياناً إلى حد التصادم. وبالرغم من نشاط هذا الجيل الثاني المعارض للدولة فقد ظل بعيداً عن سجونها وقبضتها الثقيلة التي أصابت الجيل الأول من قبل، حيث لم يدخلها ويشعر بوطأتها سوى مع النصف الثاني للتسعينيات، ولفترة قصيرة قبل ذلك سبقت وتلت اغتيال الرئيس السادات في تشرين الأول (أكتوبر) 1981. وبتلك البدايات والخبرة المختلفة تحرر الجيل الثاني أكثر من سابقه من اضطراب علاقاته وشكوكه في القوى المعارضة الأخرى وبخاصة مع نظرائه فيها زملاء الحركة السياسية الجامعية في السبعينيات، وكذلك من تخوفاته وحذره من الدولة بالرغم من احتفاظه برؤيته النقدية لتكوينها ولمختلف سياساتها الداخلية والخارجية.
وقد زاد اختلاف الجيل الثاني عن سابقه بفعل عوامل ثلاثة مهمة: الأول هو خبرة الاحتكاك بالعالم الخارجي وما يضمه من قوى إسلامية وغير إسلامية والتي لم تتوافر للجيل الأول بحكم ظروفه الخاصة والسياق التاريخي الذي نشأ فيه، وبخاصة التعرف على كل من التجارب الإسلامية في إيران، تركيا والجزائر والسعي للاستفادة مصرياً من نجاحاتها وعثراتها. وتمثل العامل الثاني المهم في تعرض الجيل الثاني لمؤثرات فكرية جديدة أتته من مصادر أخرى غير "إخوانية" تقليدياً وجدت طريقها إليه بعد رحيل الغالبية الساحقة من مفكري الجيل الأول التقليديين من الإخوان. أما العامل الثالث المهم في تكوين الجيل الثاني واختلافه عن سابقه فقد تمثل في اتساع دائرة النشاط الإعلامي لأبنائه وقياداته واضطرارهم إلى التعامل شبه المنتظم مع وسائل الإعلام العامة والموجهة لقطاعات واسعة من الجماهير العربية والإسلامية، الأمر الذي أثر كثيراً في شكل ومضمون خطابهم وبالتالي أفكارهم، وهو ما لم يعرفه الجيل الأول الذي اعتاد على التوجه من خلال وسائله الإعلامية الخاصة ذات الطبيعة الإسلامية وليس الوسائل العامة.