عجوز منبج

كنا على مقاعد الدراسة نسمع معلم اللغة العربية يقول لنا: "لو" حرف امتناع لامتناع. وفي كل مرة تقفز هذه الـ "لو" كالهرة الشقية يلعلع في رأسي صوت المعلم.
الواقع أن "لو" هي بنت الاستدراك والتمني تضعنا على شفا حفرة من العجز، وتكشف عن حالة من الخوف الغريزي الذي يداري جبناً نغطي عليه بلو. قد لا يكون الجبن مقابل عدو متجسد واضح وإنما مقابل الموت نفسه أو مقابل التقاعس عن تحدي المصاعب ومنازلة المستحيل. خذوا مثلا قول الفارس الشاعر الكبير أبي فراس الحمداني:
"لولا العجوز بمنبج
ما خفت أسباب المنية"
هنا يتذرع أبو فراس بوالدته القاطنة في مدينة منبج، فهو يخاف أن يفجعها نبأ موته وإلا لأقدم على المغامرة بنفسه ضد أعدائه. وفي ظني أن هذا قول غير مقنع وإنما هو ترقيع وتلفيق نفسي، حيلة لا شعورية لكي يردم بها هوة افتضاح حرصه على الحياة وتمسكه بها تحت ذريعة حبه لأمه وخوفه عليها. إنه نوع من مخاتلة الذات ومخادعتها لكي تتستر على جرحها المعنوي النازف، وإلا كيف يستقيم هذا الزعم وهو القائل:
"ونحن أناس لا توسط بيننا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر"
عجوز منبج هي "التوسط" منتصف الطريق، أو المقايضة النفسية التي يداهن الشاعر أبو فراس بها ذاته، فهو يقبل مكرها ألا يكون في "الصدر" لكيلا يكون في "القبر"، وبالتالي يحق لنا الجزم القاطع بأن أبا فراس الحمداني لم يكن صادقا ألبتة، وأن عجوز منبج لا دخل لها بالأمر، إنها مجرد عذر يخفي فيه نزيف جرحه المعنوي أي جبنه الذي يخجله الاعتراف به.
على نحو آخر، تجابهنا الشاعرة الخنساء بالمزايدة على فداحة إحساسها بالحزن في فقد أخيها صخر حين تقول:
"ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي"
هنا أيضا تأتي "لولا" تبريرا فضائحيا بل إقرار بجبنها تداريه برشوة نفسها ببكاء الآخرين على مقتل إخوانهم الذي يمنعها من قتل نفسها، وكأنها وجدت في بكاء الآخرين نجدة وإسعافا لها لكي تتستر على خوفها من تنفيذ القصاص بنفسها، وهكذا تحتمل الحزن حين يكون الموت هو من يتحداها.
هل رأيتم كيف تمارس "لو" قطعا للطريق على ما لا نقدر عليه لتقدمه لنا على نحو لا يؤذينا، هذا موقف يتعايش معه كل على طريقته، إنما المؤسف أننا نوظف "لو" حتى فيما لا يستدعي تضحية بالذات ففي كل شؤوننا الحياتية والأسرية والعملية، نغطي على أنانيتنا وعدم مبادراتنا وسلبيتنا بـ "لو" حتى نتهرب من مسؤوليتنا دون أن يرف لنا جفن.

ملاحظة عن راكان
في الثلاثاء الماضي كتبت عن الشاعر الفارس الكبير راكان بن حثلين، وقد سألني بعض الإخوة عن التهمة التي سجن بسببها راكان. وكنت ظننت أن ذلك مفهوم من خلال السياق، فالمعروف أن راكان البطل لم يرضخ للأتراك وفرض سيطرتهم على أراضي عشيرته وقومه وظل يقاومهم فاتهموه بالتمرد عليهم وهو فعلاً قد قض مضاجعهم، يقال إنه تعرض لخيانة من بعض أعدائه، غدروا به وقبضوا عليه وسلموه للأتراك، لكنه ببسالته استطاع أن ينتزع إعجاب الأتراك والآخرين فأطلقوا سراحه مكرما معززا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي