قضية "السعودة" هل تقسم مجتمعنا؟

يبدو أن المجتمع السعودي يتجه إلى الانقسام في الموقف بشكل حاد بصورة لم نشهدها في وعينا المعاصر, ونخشى أن ينشق المجتمع إلى فريقين يبتعدان في الأفكار والتصورات والسلوك, وهذا وضع ندعو الله أن يلهمنا الحكمة وحسن تدبير الأمور ألاّ نصل إليه حتى نوحد جهودنا ونمضي جميعا إلى استثمار معطيات الوفرة والانفراج المالي لتعزيز مكتسباتنا السابقة واستكمال حاجاتنا الكثيرة والماسة في مجالات مهمة وضرورية للاستقرار الاجتماعي والسياسي.
انقسامنا يبدو جليا حول موضوع إصلاح الخلل في سوق العمل, فالناس تتجاذب مواقف متضاربة ومتنافرة تؤدي إلى الاستقطاب وربما إلى التصادم, فهناك من يؤيد بقوه التشدد في سياسات الإحلال, وهناك من يرفض بشدة معظم الإجراءات المطبقة الآن, ويبدو أن منطقة الالتقاء تتسع بين الطرفين, ولا ندري إلى أين سيأخذنا هذا الانقسام؟
سياسات العمل المطبقة هي رغبة مجتمع يخشى من شرور البطالة، وأيضا هو توجه دولة ترى أن عليها مسؤولية أدبية وإنسانية وهي ضمان حق العمل لكل مواطن، وفي المقابل حيوية القطاع الخاص تتطلب عدم تحمله تكاليف كلية لمواجهة ضرورة اجتماعية، وهذه أيضا قضية مهمة ولا يمكن التساهل فيها.. وهكذا يبدو أننا إزاء قضيتين عادلتين: "السعودة" و"حيوية القطاع الخاص" إنهما قضيتان لا تنتهي المبررات الوجيهة التي تدعمهما.. وقد (تحاورنا) سنين عديدة حول هذا الموضوع، وليس أمامنا الآن سوى (الجدل) الذي قد يشق صفنا، ويبقى السوأل: ما الحل؟
لا أجزم أن لديّ حلا جامعا مانعا في إشكالية تبارى فيها عظماء وجهابذة، ونحن لسنا أمام إشكالية تفجرت بين أيدينا في يوم وليلة مما يستدعي اكتشاف العجلة، نحن أمام إشكالية قد لا ينفع معها إلا حل واحد وهو تطبيق مبدأ:( لكل شيء ثمن) وهذا الحل ليس من بنات أفكاري بل سمعته من أشخاص يستمعون كثيرا ويتحدثون قليلا، وهؤلاء هم الحكماء الذين يعطون أنفسهم الوقت لسماع كل الأصوات ولا يخرجهم من صمتهم إلى الأصوات النشاز (الصراخ), ويبدو أننا إزاء إشكالية (السعودة) انتقلنا فعلا إلى مرحلة الصراخ، فأصبحنا مثل ضيوف البرنامج طيب الذكر في القناة طيبة الذكر، ونقصد (الاتجاه المعاكس) في (قناة الجزيرة)، فالضيوف يلتقون ليتجادلوا في موضوعات خلافية لا ينفع معها الحوار العقلاني الهادئ بل الصراخ والشتائم والسباب وربما الركل واللكم, ونحن نترفع بأنفسنا أن نكون مثل ضيوف "الاتجاه المعاكس".
لكل شيء ثمن تعني ببساطة أن نتجه لبحث إمكانية وضع (رسوم) متفاوتة للتأشيرات حسب أهمية المهن المطلوبة, ولأجل توضيح المقصود فقط, نقول: لماذا لا توضع رسوم تؤخذ للمرة الأولى وقد تصل إلى 20 ألف ريال أو أكثر أو أقل من هذا الرقم ثم تتدرج الرسوم على التأشيرات حسب المهن وأهميتها, وربما تتضمن هذه الآلية مهنا ضرورية ونادرة تستقدم دون مقابل, وهكذا نوجد آلية موضوعية يمكن استخدامها لضبط العرض والطلب في سوق العمل, كما أن المبالغ التي تستحصل من هذه الرسوم توجه إلى صندوق للابتعاث والتدريب.
مثل هذا الحل قد يؤدي إلى تقريب وجهات نظرنا حول "السعودة", فالقطاع الخاص الذي يرى أنه تضرر كثيرا من التشدد في منح التأشيرات وبحاجة إلى العمالة الأجنبية بعد سنوات طويلة جعلته ينتقل إلى الإدمان على الاستقدام, هنا عليه أن يدفع الثمن المناسب لاحتياجاته مهما ارتفع الثمن, وهنا قد يبدو هذا الحل مربحا لنا، فبقدر ما يطلب القطاع الخاص من التأشيرات نستفيد نحن من وجود مورد ثابت للابتعاث والتدريب داخليا وخارجيا, وبعد سنوات سنجد أننا أمام وفرة من الموارد البشرية الوطنية المؤهلة في أرقى المؤسسات العلمية العالمية, وفي مثل هذا الوضع قد تتحول وزارة العمل إلى مسوق للتأشيرات يسعى إلى القطاع الخاص ليبيع عليه أكبر قدر ممكن من التأشيرات.. وقد نجد حتى إعلانات في وسائل الإعلام تغري الشركات بالمزيد من التأشيرات.
ربما يكون هذا الحل يسير في اتجاه حاد ومناقض للوضع القائم..(أو هو حلم يسيل له لعاب الاستقداميين) وعموما يبدو أننا في كثير من القضايا نحتاج إلى الانتقال من النقيض إلى النقيض حتى نستقر في الوسط, ومررنا بهذا الوضع في حالات كثيرة, والآن وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على الانغماس الكلي في قضايا العمل لم يبق إلا أن نجرب حلا واقعيا لعله يكون طوق النجاة الذي ينجينا من هذا البحر اللجي، لنخرج إلى سطح الماء حتى نسمع بعضنا بوضوح ونفكر بهدوء.. واقتصادنا بدون سياسة فعالة للضرائب والرسوم سيبقى ناقصا، بل (أعرج!)، فكيف يكون اقتصادا حرا ويأخذ بأدبيات وأدوات النظرية الرأسمالية دون ضرائب تجدد الموارد للدولة وتهذب وترشد الاستهلاك وتوجه الادخار والاستثمار وتنظم سوق العمل، ويبقى أن نقول إن الحلول الاقتصادية ليست عادلة دائما ولكنها حضارية وتخرج المجتمعات من الغرق في مشاكل بسيطة وتغلق باب التذمر الاجتماعي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي