من يعبث بلبنان ؟

كل غيور ومحب لهذا البلد "الناعم" لبنان، وأزعم بأن الغالبية حتى لا أتهم بالمبالغة وأقول "كل" العرب هو غيورون ومحبون له، يتابع ما يتعرض له من أحداث مؤسفة وهو وجل وقلق وأيضاً خائف عليه، وأكثر ما يثير القلق هو أن هناك أيادي وأصابع تستهدف ضرب أمنه واستقراره وأخطر من ذلك وحدته الوطنية، وتسعى لإذكاء همجية الفتنة وإيقاظها من رقودها الذي ندعو بأن يكون أبديا، بإذن الله، والمشهد العام في لبنان يوحي بشيء من ذلك وإن كنا على ثقة بأن اللبنانيين من الذكاء والفطنة والدراية بحيث لا يمكن أن ينزلقوا نحو دفع ثمن مثل هذه الفتنة مرة أخرى.
على خلفية ما تعرض ويتعرض له لبنان من حوادث تفجيرات واغتيالات ابتداء من اغتيال الرئيس الحريري وليس انتهاء باغتيال الصحافي والنائب اللبناني جبران تويني، والحبل يبدو أنه على الجرار، يصبح من تسطيح الأمور وتبسيطها المسارعة بتوجيه الاتهام لسورية كطرف وحيد، طبعاً، وأرجو أن يكون ذلك واضحاً، ليس المقصود من ذلك أن سورية فوق الشبهات، كما لا يجب أن نركن إلى أنها المتهم الجاهز بعد كل حادث، فالاغتيالات والتفجيرات المتلاحقة أعقد مما يظهر على السطح وهناك عدة شواهد على ذلك تلفت النظر، وأول شاهد أنه وبعد كل هذه الحوادث تختفي آثار الفاعل، والشاهد الثاني أن الأجهزة الأمنية اللبنانية الجديدة والتي أعيد تنظيمها بعد الخروج السوري العسكري والاستخباراتي الكامل من لبنان وبشهادة المبعوث الدولي رد لارسون لم تستطع القبض على أي متورط أو حتى مشبوه واحد، وثالث الشواهد وبناء على أولاً وثانياً، واضح بأن الأصابع التي تعبث بلبنان هي أصابع متمكنة وتملك قدرات بحيث تفعل ما تريد دون أن تترك أثراً يدل عليها، فمن يا ترى تكون هذه الجهة؟
إذا قيل إنها سورية، وهي المتهم الأول والدائم على لسان بعض اللبنانيين، فهذا يثير أكثر من تساؤل، فإما أن يكون الوجود السوري في لبنان سحب في العلن وبقي في الخفاء، وهذا يتعارض مع إقرار المبعوث الدولي بأن الانسحاب السوري كان كاملاً، كما أن فيه اتهاما للأجهزة الأمنية اللبنانية، التي أعيد تشكيلها وتنظيمها بعيدا عن أي تأثير سوري عليها، بالقصور وعدم القدرة والفشل في أداء مهامها الأمنية، أو أن هذه الأجهزة "متورطة" بشكل أو بآخر مثلا حسب قاعدة السيد ميليس في تقريره الأول لمجلس الأمن بأن اغتيال الرئيس الحريري لا يمكن أن يتم إلا بمعرفة الأجهزة الأمنية اللبنانية والسورية، ومع هذا نقول إنه لا هذا ولا ذاك، وهو ما يعيدنا إلى الاستنتاج السابق بأن ما يجري في لبنان من أحداث دامية لا يمكن تبسيطه بحصر الاتهام في طرف واحد بدون تدعيمه بأدلة وبراهين، فنظرياً وحسب المعطيات الموضوعية، وليس بالضرورة أن تكون قاطعة، أن احتمال تورط سورية ضعيف وهناك ما يدعم هذا الرأي، فسورية في وضعها الحالي والذي تم "كنس" كل وجود لها في لبنان من المستحيل أن تكون خلف مثل هذه الأحداث خاصة التي أعقبت اغتيال الرئيس الحريري، كما أن الضغوط التي تعاني منها تجعلها أكثر حرصا من أن تقدم رأسها للمقصلة وتتبرع بتقديم أدلة إدانة ضدها، أيضا لا نظن أن الأجهزة الأمنية والاستخبارية السورية لديها مساحة في لبنان تتيح لها التصرف بحرية وأمان ومنفردة كالسابق، فهناك من يراقب ويتابع أمنياً واستخبارياً إلا في حالة واحدة وهي أن لديها إمكانيات تفوق ما لدى غيرها وخصوصاً قوى عظمى وكبرى، طبعا ما ذكرناه يندرج تحت التحليل الموضوعي وبناء على المعطيات فقط، ولا يعني ذلك الإسقاط أن سورية أحد الأطراف التي يدور حولها الشك، ولكنها ليست الوحيدة بالقطع، إن ثبت بالأدلة والإثباتات أنها فعلاً متورطة، فهذا قمة الجنون ويحق بأن يرسل النظام السوري إلى مصحة عقلية لا أن يبقى يحكم الشعب السوري.
إذا كانت المعطيات العقلية تضعف اتهام سورية، فمن الطرف المحتمل وبناء على معطيات عقلية أيضاً؟ إذا استرجعنا الشواهد التي ذكرناها آنفاً فهي تشير إلى أن هذا الطرف لا بد وأن يكون له حضور قوي لا يقل عن قوة الحضور السوري السابق أن اختلف في الشكل، فعندما تتكرر حوادث التفجيرات والاغتيالات دون الإمساك بأي خيوط تدل على الفاعل وكأنه يرتدي طاقية إخفاء، وبأن من يتم اغتياله ينتقى بعناية كأن يكون من أشد الناقدين لسورية، يضع علامة استفهام كبيرة، كيف يخطط هؤلاء وينفذون ليس مرة واحدة بل مرات ولا يتمكن من القبض عليهم أو حتى تعقب آثارهم؟ وهذا ما يزيد الأمور غموضا فيما يحدث في لبنان، وهو غموض يشير إلى أن هناك فاعلا خفيا قادرا على أن يبعد نفسه عن دائرة الاتهام، وهذا الغموض يبرز في عجز الأجهزة الأمنية اللبنانية، التي يقال إنها تلقى مساعدة أمنية خارجية، عن كشف المنفذين، ففي حالة لبنان المستنفرة فيه كل قواه الأمنية والسياسية من الصعب الاقتناع بأن كل هذه الجرائم التي تحدث تسجل ضد مجهول وأن اتهمت سورية بكل هذه البساطة! وهذا ليس له إلا تفسير واحد وهو أن هذه القوى الخفية التي تعبث بأمن واستقرار لبنان تجد ما يساعدها ويسهل لها ويخفي آثارها بغرض صرف الانتباه عنها، وأنها تعمل لبلوغ أهداف محددة وهي التي يمكن أن نقرأ دلائلها في بنود القرار 1559.
المهم فيما يتعرض له لبنان اليوم يتطلب ألا يكتفى بإطلاق التهم الجزافية, فلبنان مستهدف في أمنه واستقراره وبشكل خطير, وقد يؤدي ذلك, وسط أجواء من يحاول أن يثبت ومن يسعى إلى أن ينفي, أن ينزلق اللبنانيون للعودة إلى الصراع الطائفي والفئوي, والتصرف المطلوب في ظل هذا الغموض الذي يلف الوضع اللبناني هو أن يصر ويعمل جميع اللبنانيين على كشف الحقيقة ابتداء من جريمة اغتيال الرئيس الحريري دون اتهام وأحكام مسبقة, وكشف الحقيقة مهما كانت مؤلمة للبعض ومحرجة للبعض الآخر هي العلاج والدواء للبنان لتمكينه من عبور هذه المرحلة التي يمر بها بأقل الخسائر الممكنة حتى يكسب كل اللبنانيين وطنهم ووحدته وتلاحمه, وأن يكون هناك اتفاق على أن الأصابع والأيدي التي تعمل وعملت على زعزعة أمنه واستقراره يجب أن تبتر حتى ولو كانت جزءا من الجسد اللبناني ذاته.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي