الانطلاق .. وشارع الضباب
تعيش بلادنا اليوم ازدهارا اقتصاديا ملموسا يُتوقع له أن يمتد ويترسخ أكثر في العام المقبل. فالمؤشرات الاقتصادية تدل على أن عام 2005 سيكون أفضل عام في تاريخ المملكة الاقتصادي. إذ تشير توقعات التقارير الصادرة من بعض البنوك المحلية إلى أن معدل النمو في الناتج المحلى الإجمالي سيبلغ نحو 6.8 في المائة. بينما يتوقع أن يصل فائض الميزانية العامة للدولة نحو 208 مليارات ريال. مما سيؤدى إلى انخفاض الدين العام إلى 595 مليار ريال في نهاية عام 2005، نزولا إلى 451 مليار ريال عام 2006. مليار ريال عام 2005. مما سيرفع من قيمة الأصول الأجنبية لدى مؤسسة النقد إلى أكثر من 123 مليار دولار.
وقطاع الأعمال بتجاره وصناعييه كبارهم وصغارهم يتحفزون لكي يؤدوا أدوارهم في هذه النقلة الجديدة. لكن ما يشغل حيزا كبيرا من تفكيرهم ويقلقهم مسألتان مهمتان:
الأولى: السياسة التي تنتهجها وزارة العمل فيما يتعلق ببرنامج السعودة ومعالجة البطالة. إذ يرى كثير من رجال الأعمال أنها سياسة غير واقعية وضارة جدا ومقيدة لانطلاقتهم المأمولة مع الازدهار الجاري. وهم يقدرون ويتفهمون حسن نوايا الوزارة ويتفقون معها في الهدف الوطني بضرورة استيعاب القوى الوطنية والقضاء على البطالة، ولكن دون ما قفز فوق حقائق الواقع. بل يخشى بعضهم أن تؤدي سياسة وزارة العمل الراهنة إلى ضياع فرصة استغلال الازدهار الحالي وقد تدفع إلى نتائج عكسية فيما يتعلق بالقضاء على البطالة. فقد تؤول هذه السياسة إلى نزوح رؤوس الأموال من الاقتصاد المحلي إلى الاقتصاديات المجاورة. والأخطر أنها قد تؤدي إلى تدمير المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي يقتات عليها نفر غير يسير من سكان البلاد.
لقد جرى مناقشة هذه المسألة على نطاق واسع وتباينت الآراء حولها، لكن لا يمكن أن يكون قطاع عريض من المجتمع على خطأ ووزارة العمل وحدها على حق! القضية تحتاج إلى الاعتراف بواقع سوق العمل وتشخيص هيكله بموضوعية وتجرد، ثم وصف واقتراح برامج وحلول متدرجة ومقبولة بمنطق السوق.
إن القرارات والسياسات الاقتصادية (عمالية كانت أو غير ذلك) التي تتبناها الأجهزة الحكومية يجب أن يتم التخطيط لها من خلال التفاهم والنقاش والاتصال مع ذوي الشأن ومن يعنيهم الأمر في قطاع الأعمال، بحيث ينظر لهم كمشاركين ومكملين في جهود التنمية. وأن نعتمد الحوارات العلمية بين القطاع العام والخاص، بدلا من الاتهامات المتبادلة والمزايدات المقيتة. ذلك أن لكل قرار اقتصادي يتخذه أي جهاز حكومي تأثيرا بالغا في قرارات الاستثمار في القطاع الخاص وتكاليف مؤثرة تنعكس على المؤسسات الخاصة ابتداء ثم تتحول إلى عموم المستهلكين لاحقا.
أما المسألة الثانية: فتتعلق بالقلق الكبير الذي يساور قطاعا عريضا من رجال الأعمال فيما يتعلق بالصعوبات والعوائق التي تواجههم والتي يخشون أنها قد تحد من قدرتهم على البقاء والمنافسة خاصة بعد انضمامنا لمنظمة التجارة العالمية. ففي المنتدى الاقتصادي الناجح الذي عقد في الأسبوع الماضي في العاصمة الرياض، أشار عدد كبير من رجال الأعمال إلى أن أكثر هذه العوائق صعوبة هي عوائق لوائح ونظم العمالة التي ذكرتها آنفا، تليها عوائق الأمن ثم القضاء فالنظم والتشريعات الحكومية.
وقد ظهر هذا القلق جليا من خلال الدراسة التي تم إعدادها بتكليف من رجال الأعمال و قدمت للمنتدى، فقد أشارت إلى أن نحو 80 في المائة من المستثمرين أفادوا بأن تكلفتهم التشغيلية ارتفعت عن نظيراتها منذ خمس سنوات بسبب ارتفاع معدلات الجريمة والسرقة وزيادة تكلفة حراسات الأمن لممتلكاتهم وأصولهم.
بينما ذكر 85 في المائة من رجال الأعمال أن هناك صعوبة في توقع الإجراءات والأحكام القضائية. في حين ذكر 83 في المائة منهم أن إجراءات المحاكم بطيئة جداً. ويبدوا أن شكوى رجال الأعمال من صعوبة توقع الإجراءات القضائية وبطئها وعدم كفاية الإجراءات الأمنية جاءت متطابقة مع نتائج تقييم وضع المملكة بالمعايير الدولية استناداً على مؤشر سيادة القانون.
ولذلك فهم يرون ضرورة الإسراع بتبني الإصلاحات الهيكلية التي تتطلبها المرحلة الراهنة، بالإضافة إلى تحسين سبل الاتصال بين القطاعين العام والخاص. فقد دعي بعضهم إلى أهمية مشاركة القطاع الخاص بنسبة 50 في المائة في كل لجنة وهيئة حكومية لها علاقة بالقرارات الاقتصادية. وأكدوا على ضرورة الإسراع في برنامج التخصيص بإيجاد جهاز مستقل يتولى تنفيذه من خلال جدول زمني محدد مرتبط بأعلى هيئة تنفيذية بالدولة. فهذا من أهم سبل استيعاب مدخرات المواطنين التي لم تجد سبيلا سوى تغذية سوق المال وتضخيمه بطريقة زادت من مخاطره.
لا شك أن المنتدى ناقش قضايا اقتصادية مهمة بروح من المسؤولية العالية وبشفافية غير مسبوقة . فقد أشار رجل الأعمال الأستاذ سليمان المنديل إلى أن الدراسة التي تم إعدادها بتكليف من رجال الأعمال أوضحت أن عدم الشفافية في الإجراءات والاتصالات فيما بين رجال الأعمال والمسؤولين في الأجهزة الحكومية أدت إلى انتشار الفساد المالي والإداري. وهذا يفسر نتائج مؤشر الضبابية التي احتلت فيه المملكة المرتبة 39 من بين 48 دولة تم تقييمها بهذا المؤشر فضلا عن احتلالها للمرتبة الأخيرة مقارنة في دول مجلس التعاون مقاسه بمعيار البيروقراطية الذي يقيس مدى تأثر الإجراءات المعقدة على الإدارة الرشيدة.
لكن كان من أكثر ما استرعى الانتباه هو ظهور مؤشرات قوية وجادة أن توصيات هذا المنتدى سوف تحظى باهتمام رسمي. فقد صرح عبد الرحمن الجريسي أن توصيات رجال الأعمال سوف ترفع للمجلس الاقتصادي الأعلى وسيتم مخاطبة ولاة الأمر على أعلى مستوى من أجل الموافقة عليها وتبنيها.
إنه لمن الجميل أن تتعدد المنتديات واللقاءات والمؤتمرات الاقتصادية التي تبحث وتناقش همومنا الاقتصادية الجارية الراهنة، والأجمل هو روح الجدية والشفافية التي بدأت تظهر في مناقشة هذه الهموم داخل أروقة هذه المنتديات.
أستاذ الاقتصاد، جامعة الملك عبد العزيز